
د. ايريني ثابت
زمن النار المقدسة
كان (علي) فى حاجة إلى المال، فطلب من رئيسه فى العمل أن يعطيه مالًا، فما كان من الأخير إلا أن وضع أمام (علي) تحدٍ.. قال له لو استطعت أن تقضى الليل كله جالسًا فوق قمة الجبل دون أن تقع فستنال المال، ولو لم تكمل التحدى ستعمل دون مقابل..
اضطر (علي) لقبول التحدى لحاجته للمال، ولكنه لاحظ أن هذه الليلة شديدة البرودة والرياح فخاف، وذهب لصديقه مرتاعًا.. قال له إنه أخطأ حين قبل هذه المخاطرة.. فكر الصديق قليلًا ثم قال لعلي: لا تخف.. اذهب إلى الجبل وانظر أمامك على قمة الجبل المقابل.. سأصعد هناك.. وسأشعل نارًا من أجلك.. وسأبقيها مشتعلة طوال الليل.. انظر إليها وفكر فى صداقتنا ولن تنعس ولن تسقط.. ستبقى دافئًا ويقظًا وتكمل التحدى.. وبعدها سأطلب شيئًا منك فى المقابل..
ربح (علي) المال بعدما صمد طوال الليل بمساعدة نار الجبل المقابل التى أشعلها لها صديقه.. ثم ذهب إليه يسأله ماذا يريد فى مقابل مساعدته؟ قال الصديق: لا أريد منك مالًا، ولا أى شىء.. فقط أريدك إذا هبت رياح باردة على حياتى أن تشعل من أجلى نار الصداقة المقدسة..
انتهت هذه القصة القصيرة جدًا التى تتخلل رواية (ألف) لباولو كويلو.. وألِف – بكسر اللام – هى من أشهر روايات كويلو بعد رواية (الكيميائى).. وهى تحكى فصلًا من حياة الكاتب نفسه.. إذ يستخدم فيها ضمير المتكلم ويصير الراوى هو الكاتب والبطل الأول للقصة.. وبسؤال كويلو فى حوار مع (نيويورك تايمز) عما إذا كانت رحلته بالقطار فى روسيا وسيبيريا – والتى تمثل الشطر الأعظم من الرواية – حقيقية أم لا.. أجاب أن الرواية كلها تمثل سيرة ذاتية له ككاتب..
استوقفتنى الرواية لأنها متميزة من عدة أوجه.. فقلما تصدر رواية كاملة فى القرن الحادى والعشرين تتناول موضوعات روحانية بحتة كتيمة أساسية فيها.. وربما تكون فكرة الرحلة الداخلية التى تصاحبها وتنيرها وتنشطها رحلة واقعية للبطل فكرة قديمة تناولها الكتَّاب الإنجليز من قبل.. ولكن رحلتى كويلو الخارجية والداخلية فى رواية ألف اختلفتا تمامًا وتميزتا جدًا عن غيرهما بسبب عنصر واحد هو عنصر أساسى فى القصة ألا وهو عنصر الزمن..
لماذا اختار كويلو عنوان (ألف) لقصته؟ ألف هو أول الحروف فى العبرية وأيضًا العربية.. وفى الرموز الدينية يصف هذا الحرف الأول: البداية أى الأزلية أى الزمن اللا محدود.. وتبدأ أكبر التحديات التى لم يتمكن البشر حتى الآن من تخطيها: الزمن.. ومنها يعيش الكاتب رحلة عبر الأزمان تصاحبها رحلته عبر المكان.. يتقابل مع شخصيات لم يعرفها قبلًا لكن ربما يكون قد عرفها فى أزمان ماضية.. وتشعل تلك الشخصيات للكاتب نار الصداقة المقدسة ليعبر الليل البارد والذى كان قد طغى على حياته بسبب مرحلة من فقدان إيمانه.. وفى أحداث الرواية يجد القارئ أن الكاتب أيضًا يشعل تلك النار المقدسة لهؤلاء الذين ساعدوه قبلًا.. وكأنه يكمل قصة (علي)، الذى وعد صاحبه أن يسانده حين تعصف به الرياح الباردة..
ألف تحوى كل الحروف وكل الزمن وتساعد الروح أن تتحرر وأن تواجه أخطاءها وتنظر نفسها كما فى مرآة لتتوب وتتطهر وتغفر وتعود فى نهاية الرحلة كما لو كانت مولودة جديدة تتحدى كل زمن.. هكذا جاءت الرواية.. ورواية ألف بما تحوى من استبصار روحانى وسياحة تصوفية لا تخلو من واقعية، هى رواية تحمل فى طياتها دونما أى إشارة لفظية لعدة معان مذهلة.. أولها أن للإنسان قدرة كاملة على التحكم فى ذاته من خلال تقوية روحه.. فقد قادت روح الكاتب البطل جسده كيما يسلك مسلكًا قويمًا مميزًا بين الطريق الصحيح وغير الصحيح ومتبعًا الأول بقوة وبعزم بالرغم من أن الطريق الصحيح هو الأصعب دائمًا..
وثانى تلك المعانى هو أننا حتى لو لم نهزم الزمن – ولن نهزمه – نستطيع أن نعيش زمانًا هادئًا - ما أسماه كويلو بدرب السلام الذى نحارب فيه شرورنا ونهزمها – إذا ما أشعلنا النار المقدسة بعضنا لبعض.. إذا ما سندنا وشجعنا الآخرين وغفرنا لهم.. إذا ما قبلنا منهم السند والتشجيع وسألنا منهم الغفران.. باختصار كما قال كويلو: إذا أحببنا الآخرين كالنهر: «نهر يعجز عن تفسير سبب جريانه فى مسار محدد، وإنما يجرى قدمًا ببساطة. حب لا يطلب أى شىء ولا يسأل أى شىء فى المقابل، إنه موجود فحسب».. شكرًا باولو كويلو.. فلنقرأ (ألف) ولنشعل النار المقدسة..