الدراما الأمريكية.. قصة صعود ونهاية مأساوية

أحمد قاسم
لا شك أننا نعيش الآن عصرًا ذهبيًا للترفيه وأصبح يلعب فيه دورًا بارزًا فى حياة الإنسان المعاصر، فشعبيته الطاغية، لا سيما بين أوساط الشباب أحدثت تأثيرًا هائلاً فى نفوس الملايين واتجاهاتهم الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، فالآن وقد ودعنا العقد الثانى فى الألفية الثالثة، لم تعد مشاهدة فيلم أو مسلسل ما مجرد فعل سلبى يشغل به المتلقى أوقات فراغه، بل أصبح فنًا له أصوله وقواعده وتحول بمرور الوقت إلى صناعة عملاقة يدخل فى مكوناتها عناصر شتى جعلته فنًا قويًا فريدًا فى نوعه.
عندما كان المسلسل الأمريكى فى سنوات نشأته الأولى، عانى كثيرًا لكى يعتبره الجمهور-العالمى قبل الأمريكى- فنًا له جمالياته الخاصة وقواعده وأصوله العلمية ومنظّريه من النقاد شأنه شأن السينما ومن قبلهما المسرح الأمريكى، فقد كانت المسلسلات تصنع لأهداف تجارية بحتة ولخدمة شركات الإعلانات، ولا تعدو كونها وسيلة تسلية للطبقة المتوسطة الأمريكية المحافظة، خاصة النساء منهم، فكانت تلك الطبقة أول من خلقت أنواع المسلسلات Genre وهو التليفزيونى الطويل أو الـ«سوب أوبرا»، الذى جاء من الراديو ليسطو على الشاشة الصغيرة عشرات السنين، فوصلت الميلودراما ذروتها، حيث كانت القصص مبتذلة للغاية شديدة المبالغة وتستدر التعاطف والدموع، وبالتالى لم ينبثق عن هذا النوع فن جاد. كانت المشكلة آنذاك تتمثل فى أن المسلسل الأمريكى كان ابنًا شرعيًا للسينما التى لم تكن هى الأخرى قد اكتسبت صفة أن تكون فنًا بالمعنى الحقيقى للكلمة إلى أن ظهرت الموجة الجديدة فى فرنسا وأثرت على السينما الأمريكية وظهر مخرجون شباب حملوا على عاتقهم هذا التحول من أمثال «مارتن سكورسيزي» و«براين دى بالما» و«فرانسس فورد كوبلا»، ومع ذلك ظلت المسلسلات الأمريكية وسيلة التسلية الجماهيرية الأولى، لما لها من خاصية تتفرد بها وتميزها عن السينما، وهى التسلسل القصصى الذى ليس له أى نظير فى جميع الفنون المعروفة، فلا توجد لوحة فنية أو مسرحية أو قصيدة أو مقطوعة موسيقية متسلسلة. ومع ذلك كان المثقفون يرون مثلاً أن السينما الصامتة ومسلسلات الـ«سوب أوبرا» مثل مسلسل (جايدنج لايت) الذى بدأ عرضه فى الثلاثينيات واستمر لمدة 72 عامًا، ساذجة وموجهة للطبقات الفقيرة، ومع ذلك وعلى مدار السنين كان هناك فنانون يستخدمون هذا الوسيط الجديد بقدر كبير من الحرية الإبداعية خاصة بعدما حصل نفس الأمر مع السينما. ومن خلال الممارسة ظهرت مسلسلات حاولت أن تلمس حدود مدارس فنية من السينما والشعر والفن التشكيلى والموسيقى، وأضحت المسلسلات أكثر من مجرد مرآة للواقع، بل زادت قابليتها على «تحوير» هذا الواقع والتلاعب به، وظهرت تيارات كثيرة منها السيرالى والتعبيرى والتجريبى والطليعى، إلا أن هذا الأمر تأخر كثيرًا -عكس السينما- حتى عقد التسعينيات، فقبل ذلك كانت المسلسلات الميلودرامية الطويلة وأعمال الويسترن هى المسيطرة على الشاشة الصغيرة مثل مسلسلات (بيتونبلايس، دالاس، داينستى، فلامنجو رود.. وهوتيل). وقد شهدت نهاية عقد التسعينيات الرمق الأخير لمسلسلات الـ«سوب أوبرا» وولدت موجة جديدة -ما بعد انطباعية- أخذت من خلالها الدراما الأمريكية الواقع الجديد وأعادت تصويره، وأصبح المسلسل نوعًا من تعاقب عرض آلى للعالم استمد مغزاه من الاكتشافات الفنية للشكل والنمط والنوع والتكنيك، وتمكن المخرجون الأمريكيون وشركات الإنتاج من السيطرة على تلك الآلية واستخدامها بأفضل ما يمكن من الإبداع. إن مخرجى تلك الموجة الناشئة استعانوا بأسلوب قصصى سينمائى وصاغوه بأفضل ما يمكن من وسائل شتى ليصبح مناسبًا للتليفزيون، فظهرت مسلسلات أمثال: (ستار تريك ديب سبيس 9، بابليون 5، 24، وداون تاون آبى، إكس فايلز وفامبيرسلاير)، تعمد جميعها إلى قصة تعتمد على حبكات مثيرة ومشوقة لدرجة أنها لا تلقى بالاً للشخصية الدرامية ورسمها، وهو نفس التيار الذى كان سائدًا فى أفلام هوليوود فى تلك الفترة، وذلك باسثتناء مسلسلات قليلة للغاية مثل مسلسل الرعب (توين بيكز)، الذى ابتكره السريالى العظيم «ديفيد لينش» بالتعاون مع صديقه الروائى «مارك فروست»، وهو أحد الأعمال الذى يمكن القول إنها كانت شهادة وفاة الـ«سوب أوبرا». بحلول هذا الوقت كانت شركة «إتش. بى. آو» قد حققت نجاحات باهرة فى مجال الدعاية والإعلان منذ انطلاقها كشبكة بث رقمية ذات اشتراكات فى منتصف السبعينيات، ذلك أنها أنتجت مسلسلات ناجحة للغاية مثل: (تيلز فروم ذا كريبت، دريم أون، مستر شو، وأرليس)، وكلها مسلسلات كوميدية نقلت مسلسلات كوميديا الموقف أو الـ«سيت كوم» إلى تلك الموجة الجديدة، فهذا النوع كان هو الآخر شديد الانطباعية منذ ظهر لأول مرة فى الخمسينيات حينما عرضت شبكة «سى. بى . إس» مسلسل (أحب لوسى)، ثم مسلسل (ماش) الذى عرض عام 1972 وترشح لجوائز جولدن جلوب وإيمى، ومسلسل (تشيرز) عام 1982، ومسلسل (أمير بيل إير) فى نهاية الثمانينيات والذى كان له الفضل فى دخول النجم «ويل سميث» عالم التمثيل. لكن نجاح أعمال «إتش. بى. أو» الكوميدية جعلت الشركات المنافسة لها تتهافت على إنتاجات مشابهة، فساهم ذلك فى ظهور أعمال سيذكرها التاريخ مثل (ساينفيلد) الذى أصبح ظاهرة ثقافية لدرجة أن البعض وصفه أفضل مسلسل كوميدى على الإطلاق، والمسلسل الخالد (فريندز)، و(توآند هاف مين)، و(فريزر)، لتصل تلك الموجة إلى ذروتها بعد مسلسلى (هاو آى ميت يور مازر، ذا بيج بانج ثيورى، مودرن فاميلى، وذاسيمسونز)، ثم سرعان ما تظهر موجة جديدة هى تجريبية استعارت فحواها وتراكيبها من الكوميديا البريطانية التى لطالما تميزت بالروح التهكمية السوداوية. كان أول أعمال تلك الموجة وأنجحها، هو مسلسل (ذا أوفيس) إنتاج 2005، والذى كان نسخة أمريكية لمسلسل بريطانى من نفس الاسم ابتكره الكوميديان البريطانى العبقرى «ريكى جارفيس» وصديقه السيناريست «ستيفين ميرشنت»، فعبر هذا المسلسل طور الاثنان هذا النوع ليصبح تيارًا قائمًا بذاته فى الموجة التعبيرية الجديدة، وهو نوع الـ«وثائقى الكاذب» أو الـ«موكيومنترى»، وفيه يعرض العمل على أنه تسجيل وثائقى لعرض حياة حقيقية، ولكن فى الحقيقة هذه الحياة هى خيالية، وفى العادة يتم استعمال هذا النوع لتفسير أحداث حالية من خلال إضافة جو من الخيال حولها. بعد ذلك التحم تيار الـ«سيت كوم» والـ«موكيومنترى» لتخرج نتيجة ذلك مسلسلات سرقت أضواء أفلام هوليوود الكوميدية، مثل مسلسل (بيركز آند ريكريشن، مودرن فاميلى، نيو جيرل وبروكلينناين-ناين) ومؤخرًا (وان داى آت آتايم) الذى أنتجته شبكة «نتفليكس» ومهدت الطريق لظهور النزعة الطليعية لتلك الموجة والذى كان مسلسل (لوى) أحد أهم أعماله، ذلك أنه من ابتكار الكوميديان العملاق «لويس سى كى»، الذى يشتهر بنزعته الثائرة على أعراف صناعة التليفزيون، فنراه قد شكّل «هوية» خاصة ترافقت مع حلقات المسلسل، وتميزت بالذاتية الشديدة. لكن التيار الطليعى للدراما الأمريكى لم ينطلق حقًا إلا مع ظهور الموجة التعبيرية بفضل «إتش. بى. أو» التى انتجت مسلسلات اهتمت بصورة رئيسية بهموم الإنسان المعاصر مثل مسلسل (أوز) وهو أول إنتاجات الشركة من نفس النوع، وهو أيضًا بطولة جماعية تدور قصته فى أحد السجون، ثم سرعان ما أنتجت فى 1999 المسلسل الذى يجمع النقاد أنه الانطلاقة الحقيقة للتراجيديا فى التلفاز الأمريكى وهو مسلسل (سوبرانوز). وبعيدًا عن أن هذا المسلسل حاز على مئات الجوائز والترشيحات وقارنه البعض بأفلام المافيا الأسطورية إلا أن مبتكره «ديفيد تشيس» أرسى اللبنات الأولى لـ«خلطة» المسلسل التليفزيونى الذى لم يطغَ نجاحه التجارى على نجاحه الفنى، وهى نفس الـ«خلطة» التى سنراها فى أعمال خالدة أخرى مثل: (ذا وير، ترو ديتكتف، باند أوف برازر، ماد مين، وبريكنج باد) الذى كان بمثابة نهاية الطور الأول للموجة التعبيرية. غيرت «إتش. بى. آو» شكل الدراما للصورة التى نعرفها اليوم عام 2011، حينما عرضت الحلقة الأولى (صراع العروش)، بعد أن وافقت على اقتراح «ديفيد بنيووف» و«دانيال ويز» فى إقناع أبو الفانتازيا الأمريكية «جورج آر آر مارتن» لتحويل تحفته الروائية الخالدة (أغنية الجليد والنار) إلى عمل تليفزيونى ضخم، بيد أن الشركة كانت قد تنوى هذا الأمر مع مسلسل (روما) إنتاج 2005 إلا أن أحجمت عن هذا المشروع نظرًا لتكاليفه الباهظة، إلا أن وجود «مارتن» فى الصورة كان بمثابة «ختم تعهد» لنجاح تلك الفكرة. إن (صراع العروش) ظاهرة فريدة بكل المقاييس جمعت فى عناصرها قاطبة أركان العمل الدرامى الناجح فنيًا وتجاريًا، سواء من ناحية التمثيل أو الإخراج أو المؤثرات أو السيناريو والحوار أو مئات الشخصيات الواقعية أو الأهم من ذلك القصة وحبكتها التى وصفها النقاد-بدون مبالغة- بأنها النموذج الأمثل على «القصة الكاملة»، والتى أيضًا جعلت جماهير المسلسل يعمدون إلى قراءة سلسلة الروايات والقصص الفرعية لها وكتب التاريخ التى لا يزال «مارتن» يعكف على تألفيها خصيصًا لجماهيره الذين زادت رقعتهم بالملايين. يمكن القول إن شركة «نتفليكس» أحدثت هى الأخرى ثورة هائلة فى صناعة الدراما التليفزيونية، فبسببها ظهرت وسيلة جديدة لعرض المسلسلات والأفلام، وهى المنصات الإلكترونية، التى جعلت شركات عملاقة مثل: «أمازون» و«ديزنى» و«هولو» تحذو حذوها وتركن إلى الإنتاج التليفزيونى حتى لا تهيمن «نتفليكس» على البث المباشر بعد أن اشترت حقوق بث محتوى يحظى بشعبية هائلة، وهو ما وصفه البعض بأنه قد يكون نذيرًا لـ«نهاية عصر التليفزيون». >