
د. ايريني ثابت
الوجوه الضاحكة
من مميزات ركوب التاكسى ملاحظة المارّة، وكيف يبدون، وكيف تبدو تعبيرات وجوههم.. بل ما هى سلوكياتهم فى الشارع أيضًا.. وإذا دققتَ النظر فستجد أن معظم سكان المدن الكبيرة كالقاهرة فى عصرنا الحالى غالبًا يسيرون فى الشارع بوجوه عابسة.. قلما تجد أحدهم يضحك أو حتى يبتسم.. ولكننى فوجئتُ فى ذلك النهار بثلاثة وجوه ضاحكة لرجال جالسين القرفصاء تضىء شمس النهار المصرية نصفَ وجوههم المصرية وتظلل النصفَ الآخر ظلالٌ من أشجار الشارع.. كانوا يحملون أكواب الشاى الأحمر ويبدو أن أحدهم قال شيئًا مضحكًا فانطلقت ضحكاتهم العالية فى وقت واحد وفجأة صارت الوجوه الثلاثة متشابهة لدرجة أن يعتقد الرائى أنهم أخوة.. لم أتمكن من معرفة الذى أضحكهم فجأة ولم أعرف متى توقفوا عن الضحك.. فلم يكن الشارع مزدحمًا ولا استوقفتنا إشارة مرور- على غير العادة- وبالتالى لم أرَ سوى مَشهد انطلاق الضحك الجميل وكأنها صورة رسمها فنان بشمسها وظلها ووجهها الضاحك.. ولما عُدتُ فى آخر اليوم للمنزل وجدت الصورة عالقة فى ذهنى.. وتذكرت كيف بدا الرجال الثلاثة.. كانت ملابسهم متواضعة للغاية ومظهرهم أيضًا ينم عن رقة الحال.. كشفت ضحكاتهم عن أسنان لم تزُرها فرشاة ولا معجون أسنان أبدًا.. وتذكرت ذلك المكان الذى كانوا قابعين فيه بأكواب الشاى.. إنه ذلك المخزن الكبير الذى ينقلون فيه أشولة الدقيق.. إذن هم حمّالون نقلوا الأشولة ثم جلسوا يرتاحون ويشربون الشاى.. اكتمل المشهد إذن!! ولكنه لا يضحك ولا يسعد على الإطلاق.. عمل شاق، وحياة منهكة، فما المضحك فيها؟! رحتُ أبحث عمّا يقوله العِلم فوجدت أن الأدب قد سبقه فى اكتشاف السعادة.. ووجدت أن العلم قد أثبت فى القرن الواحد والعشرين أن أكبر مسببات السعادة الأصدقاء والطبيعة.. وأن ذلك الطفل الذى ينشأ فى أجواء ريفية ويقضى طفولته جريًا وسط الخضرة والأشجار مع رفاق مثله هو الأسعد على الإطلاق حتى لو اختلفت ظروف معيشته بعد أن يكبر.. وكأن الطبيعة التى كانت خارجه، صارت داخله.. يحملها معه فى ذكرياته التى تصير كفيلة وحدها بمنحه السعادة من جديد.. كان الشعراء الرومانسيون فى الآداب الأوروبية قد كتبوا عن الطبيعة أشعارًا وأبياتًا لا حَصر لها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. وانتقلت عدوَى الرومانسية والطبيعة لشعرائنا فى القرن العشرين فكتبوا عن الطبيعة الشافية للنّفْس والمانحة للسعادة.. ولا ينسى أحدٌ منّا إيليا أبو ماضى وقصيدته: كم تشتكى وتقول إنك معدم؛ والأرض مِلكك والسما والأنجم/ ولك الحقول وزهرها وأريجها؛ ونسيمها والبُلبل المترنم.. إلى آخر القصيدة التى يرى كاتبها أنه لا يمكن أن يكون هناك سبب للاكتئاب والشكوى طالما أن الطبيعة حولك.. عدتُ لمشهد الوجوه الضاحكة وربطته بكثير من الشخصيات التى تعرفتُ عليها وهم من أصول ريفية وتفكرت فى نظرية الطبيعة المفرحة بالإشارة لهؤلاء وأولئك.. وبدا الأمر واضحًا أنها الحقيقة فعلًا.. الخروج من المُدن والشوارع والمبانى الشاهقة.. رؤية قدر أكبر من السماء الزرقاء.. اللون الأخضر ونور الشمس وظلال الأشجار.. رحابة وأمن الانطلاق فى الحقول.. هل جاء الرجال الثلاثة من الريف؟ ربما.. هل يستحضرون جلسات الأرض على الخضرة والاستظلال بالشجر كما فى طفولتهم؟ ربما.. هل يضحكون بسعادة لأنهم معًا يتشاركون حتى الآلام؟ ربما.. ولكن المؤكد هو أنهم سُعداء بحق فى بساطة وتواضُع حال.. دون جاه ولا أموال.. فلا كانت المدنية والتقدم والترف سببًا فى سعادة، ولا كان غيابهم هو سبب التعاسة.. بيتان يقولهما «أبو ماضى» فى قصيدته.. واحد فى منتصف القصيدة وآخر ينهيها به.. بيتان يختصران ما وصل إليه العلماء.. صور وآيات تفيض بشاشة حتى كأن الله فيها يبسم أحبابنا ما أجمل الدنيا بكم لا تقبح الدنيا وفيها أنتم