السبت 9 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

السينما الكردية 100 عام من القمع التركى

السينما الكردية  100 عام من القمع التركى
السينما الكردية 100 عام من القمع التركى


دخل علينا الأسبوع الثالث من العدوان التركى الغاشم على شمال شرقى سوريا وتنكيل نظام «رجب طيب أردوغان» بالأكراد، الذى يعتبرهم تهديدًا تاريخيًا لطموحاته الاستعمارية والتوسعية، فاتحًا بذلك الباب لهروب مئات من عناصر تنظيم «داعش» الإرهابى خاصة بعد انسحاب القوات الأمريكية من هناك.
إن لعنة الأكراد تكمن فى شتاتهم والقمع الذى مارسته عليهم تركيا مُذ كانت عثمانية، سواء خلال مشاركتهم فى اتفاقية «سايكس-بيكو» التى ظلمت الأكراد، أو عبر المذبحة المأساوية لشعب الأرمن عام 1915 التى نال الأكراد نصيبهم منها، وحتى بعد صعود «مصطفى كمال أتاتورك» الذى مارس حملة قمع شديدة فى حق الأكراد، عبر سلخ هويتهم الثقافية لدرجة إنكار وجود أكراد فى تركيا وحظر لغتهم بشكل كامل.


يناضل الأكراد فى العالم من أجل الحصول على وطن يضم شتاتهم ربما باستثناء مصر، التى تعتبر الدولة الأولى التى احتضنت الأكراد وجعلتهم ينصهرون فى نسيج المجتمع المصرى منذ مئات السنين؛ إذ إن الأزهر الشريف خصص لهم رواقًا خاصًا قبل مجيء «صلاح الدين الأيوبى» -الكردى الأصل- إلى مصر، وسيدهش البعض حينما يعرف أن أسماء مثل «محمد على» و «أحمد شوقى» و«عباس العقاد» و«محمد عبده» و«قاسم أمين» و«عبدالباسط عبدالصمد» و«محمود تيمور» و«سعاد حسنى» و«على بدرخان»، من أصول كردية مباشرة.
إن اضطهاد «العثمانلى» للأكراد، حال دون وجود محاولات لتوثيق هذا الأمر سينمائيًا أو حتى أدبيًا فى تلك الفترة، فقد كان أول ذكر لكلمة «الأكراد» فى السينما، أيام روسيا القيصرية، حيث أشرف منتج سينمائى روسى يدعى «مينيرفينا» عام 1915على صناعة فيلم يدعى (تحت سلطة الأكراد) يحكى عن جرائم الأتراك فى حق الأرمن، وقد عرض الفيلم فى 25 أكتوبر 1915، لكنه فُقد تمامًا سواء من أرشيف السينما الأرمينية أو الروسية.
ظهر أول فيلم روسي/سوفيتى عن الأكراد، للنور على يد أحد أهم مخرجى السينما السوفيتية فى التاريخ، وهو الأرمنى «بيك نزاروف»، الذى أخرج فيلم (زاريا) عام 1926 وعرضه بعدها بعام، وتحدث فيه عن حياة الأكراد قبل ثورة البلاشفة من خلال قصة حب ميلودرامية بين الراعى «سعيد» والفتاة «زاريا» إلا أن الإقطاعى التركى «تيمور بيك» يفرق بينهما بأن يتخذ الفتاة زوجة له ويرسل الراعى إلى الحرب العالمية الأولى.
حقق الفيلم نجاحًا شديدًا وظل محفورًا فى ذاكرة الأكراد طيلة عقود، ما أجبر «نزاروف» فى الثلاثينيات أن يركب شريطًا صوتيًا على الفيلم لأنه كان صامتًا، ولا يزال إلى الآن نسختان منه واحدة بالأرمينية، محفوظة فى يريفان عاصمة أرمينيا، وأخرى بالروسية محفوظة فى موسكو، وهى المتوفرة الآن على شبكة الإنترنت.
المحاولة الثانية لتوثيق معاناة الأكراد كانت سوفيتية/أرمينية أيضًا، حملت بصمة مخرج أرمنى يدعى «آمومارتيروسيان»، والذى عمل كمساعد مخرج لـ«نزاروف» فى (زاريا)، فعاد عام 1932 ليصور فيلمًا عن طائفة اليزيدين الأكراد، وكان فيلمًا وثائقيًا تسجيليًا أقرب منه إلى روائي، ذلك أنه ركز على تسجيل وقائع الحياة اليومية للأكراد وتفاصيلها بحيث طغى ذلك على القصة الرئيسية التى تسرد معاناة الراعى «جلال» وزوجته تحت الحكم السوفيتى. 
ومنذ تلك الفترة وحتى انهيار الاتحاد السوفيتى، لم يصدر عن السينما الروسية أى فيلم يحكى عن الأكراد سوى فيلم وثائقى واحد بعنوان (أكراد أرمينيا السوفيتية) والذى أنتجه التليفزيون الأرمنى عام 1959، واعتبر آنذاك دعاية سياسية لتوطين الأكراد فى العراق عام 1959، برعاية الزعيم الكردى «ملا مصطفى البارزانى»، وفيلمين آخرين أنتجهما التليفزيون الرسمى فى جورجيا الأول عام 1972 تحت اسم (نحن أمميون)، والثانى بعنوان (نحن الأكراد) عام 1981.
ورغم كل تلك المحاولات المتواضعة، لم تكن هناك سينما كردية بالمعنى الحقيقى للكلمة خاصة فى الدول الأربع الرئيسية المشتت بينها الأكراد، وهى سوريا وإيران والعراق وتركيا، والتى ظهرت فيها أولى لبنات السينما على أيدى «يلماز كونى» الذى عرف فيما بعد بأنه الأب الروحى للسينما الكردية وحصل على أكثر من 20 جائزة دولية أهمها السعفة الذهبية، واقترن اسمه بأسماء مخرجين أتراك معارضين كبار مثل «لطفى أمير عقادى» و«متين إيركسان» و«خالد رفيق»، حيث قرر فى 1982 تأسيس سينما أهلية وطنية كردية حينما أخرج وألف أول فيلم ناطق باللغة الكردية، بعنوان (الطريق)؛ إذ إنه كان يكتب أفلامه باللغة التركية لأن النظام السياسى فى تركيا كان يمنع إنتاج أفلام باللغة الكردية ويعتبر التحدث بتلك اللغة جريمة.
(الطريق) حاز على جائزة السعفة الذهبية فى مهرجان كان السينمائى، وعلى جوائز أخرى فى فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا، وترشح لجائزة الجولدن جلوب كأفضل فيلم أجنبى، وقبل تصويره كان لـ«كونى» باع طويل فى السينما منذ أن كان عمره 21 عامًا، لكنه بدأ مسيرته الإخراجية فى تركيا عام 1966 بفيلم (حصان وامرأة وسلاح) لتصل حصيلة أفلامه التى أخرجها وألفها ومثل فيها إلى أكثر من 110 أفلام، ركزت أغلبها على اضطهاد تركيا للأكراد والتنكيل بهم، وهو ما جعله من أشد أعداء الدولة التركية التى جعلته ضيفًا فى سجونها منذ مطلع الستينات حتى هروبه من السجن إلى فرنسا ووفاته هناك فى 1984.
 ولذلك فإن معظم أعماله صنعها من وراء القضبان، وأبرزها (الطريق) الذى أخرجه وهو فى السجن حيث كان يوجه زملاءه أثناء زيارته فى السجن عن كيفية إدارة الكاميرا والمشاهد التصويرية.
وقبل (الطريق) كتب «كونى» وهو فى السجن أفلامًا عن الأكراد ولكن باللغة التركية، مثل (قانون الحدود) عام 1967، الذى أخرجه «عقادى»، والذى يعتبر أول محاولة صريحة من جانب «كونى» لتسليط الضوء على قمع الأتراك للأكراد، وفيلم (القطيع) عام 1978، والذى يركز أيضًا على حالة الفقر والبؤس والجهل فى المناطق الكردية بتركيا، وحاز جوائز فى مهرجانات سينمائية شتى مثل مهرجان فالنسيا وبرلين ولندن.
«كونى» ألهم مخرجين أتراك بأن يصنعوا أعمالاً تعارض تارة النظام القمعى، وأعمالاً أخرى تركز على مشكلة الأكراد، فنرى المخرج التركى «ممدوح يون» يطرح عام 1975، فيلمًا بعنوان (أسطورة جبل آجري) عن رواية للأديب الكردى «يشار كمال»، فيما أخرج «إيردنكيرال» عام 1982 ثالث أفلامه باسم (فصل فى هكارى) وتحدث فيه عن مدرس تركى يُرسل للتدريس فى قرية كردية نائية تقع فى إقليم هكارى، كنوع من النفى والعقاب، وهو فيلم أزعج السلطات التركية فمنعت عرضه.
ومنذ هذه البداية المتأخرة، شرع الأكراد فى استخدام اللغة البصرية والجمالية فانهمكوا فى ترجمة كل مهاراتهم وإبداعاتهم لأعمال سينمائية، فتحقق للسينما الكردية حضور لافت فى العقدين الأخيرين، ففى العراق الذى يعتبر أكثر الأماكن استقرارًا للأكراد حيث يعيشون فى الشمال الغربى ويطلقون عليه إقليم كردستان العراق، ظلت السينما الكردية هى والعدم سواء طيلة عشرات السنين، رغم أنه كان هناك مخرجون أكراد شهيرون مثل «كاميران حسنى» الذى أخرج فيلم (سعيد أفندى 9)، و«حكمت لبيب» مخرج فيلم (بصرة ساعة 11)، و«عبدالجبار ولى» مخرج فيلم (من المسئول؟).
كل تلك الأفلام كانت عراقية أكثر منها كردية،  فحتى عام 1977 لم يكن فى مدن الإقليم سوى 15 دار عرض سينمائية، ولم تكن هناك فى تلك الحقبة سوى محاولة سينمائية كردية واحدة على يد المخرج الكردى «يوسف جرجس»، الذى حاول فى بداية الستينيات إنتاج فيلم تحت اسم (كاوا الحداد)، لكنه لم ير النور أبدًا.
فى التسعينيات برز اسم «خليل أويسال» بين الأوساط الكردية-العراقية بالتحديد- كأحد أبرز مقاتلى حزب العمال الكردستانى، وهو لم يحقق نفس شهرة أقرانه من المخرجين الأكراد، ذلك لأنه كان مقاتلاً أكثر منه سينمائيًا، فقد جاء إلى كردستان من تركيا عام 1995 ليقوم بتغطية صحفية لبعض الاشتباكات بين الأكراد والأتراك فى كردستان، وسرعان ما التحق فى صفوف الحزب، فكان يقاتل بالكاميرا والسلاح فى آن واحد، وأشهر أفلامه هو فيلم (تيراج) من إنتاج عام 2002، وهو فيلم تسجيلى يعرض مشاهد حقيقية لمجازر الأتراك فى كردستان، وفى 2008 وبينما كان يعكف «أويسال» على تصوير فيلم جديد لقى مصرعه فى اشتباكات عنيفة مع الجيش التركى بمنطقة بستا الواقعة شمال الإقليم.
يمكن القول إن الانطلاقة الحقيقية للسينما الكردية فى العراق جاءت مع ظهور اسم «هونر سليم»، أحد رواد التيار السينمائى الكردى المعاصر، فهو ابن كردستان العراق الذى فر إلى إيطاليا إبان الحرب العراقية الإيرانية، ومنها استقر فى فرنسا حتى الآن، وفى 1992 استطاع دخول مهرجان فينسيا من خلال لقطات أرشيفية تصور معاناة الأكراد فى كردستان، وفى 1998 أخرج أول فيلم روائى طويل بعنوان (تعيش ماريا .. وتحيا كردستان)، والثانى عام 2000 بعنوان (ما وراء أحلامنا)، أما فيلمه الثالث (فودكا ليمون) عام 2003 فقد حصل على جائزة «ماركو» بمهرجان فينسيا، أما أشهر وأفضل أفلامه على الإطلاق فهو (أرضى بفلفلها الحلو) إنتاج عام 2013، والذى جعل تركيا تلاحق أعماله وتطالب دول العالم بعدم عرضها بدعوى أنها تدعو للانفصال.
كان أول فيلم كردى يمثل العراق فى حفل جوائز الأوسكار، هو (قداس الثلوج) وهو إنتاج عراقى إيرانى مشترك عام 2005، وبعدها بعامين كرر «جمال رستمى» التجربة بأن أخرج فيلمًا كرديًا خالصًا بعنوان (مخاض شعب) عرض لأول مرة فى إقليم كردستان العراق، ومتقبس عن رواية شهيرة بنفس الاسم للروائى والكاتب والسياسى الكردى الراحل «إبراهيم أحمد»، ويعتبر أول إنتاج كردى وطنى، حيث إن الشركة المنتجة للفيلم وهى «سولى فيلم» أسستها «هيرو إبراهيم أحمد»، زوجة الرئيس العراقى الراحل «جلال الطالبانى».
وفى 2006، أعلنت حكومة إقليم كردستان العراق أنها بصدد إنتاج فيلم ضخم عن الأكراد وزعيمهم التاريخى «الملا مصطفى البارزانى» واتفقت مع «على بدرخان» على إخراجه، والذى قال خلال زيارته للإقليم آنذاك إنه يأمل فى إسناد دور البطولة للراحل «عمر الشريف»، إلا أن المشروع لم ير النور.
وقد ساهم مهرجان دهوك السينمائى الدولى، الذى انطلق فى كردستان العراق للمرة الأولى عام 2011، فى انتعاشة بسيطة للسينما الكردية بالعراق، وظهور رائد جديد لها وهو «شوكت أمين كوركى» صاحب الأفلام الناجحة مثل (ضربة البداية) و(عبور الغبار) الذى شارك فى مهرجان القاهرة السينمائى عام 2006، وفيلم (ذكريات منقوشة على حجر) الذى شارك فى مهرجان أبوظبى السينمائى عام 2014.
أما فى سوريا، فلم تشهد سينما الأكراد انطلاقة حقيقية حتى الآن، ويمكن اعتبار فيلم (الأشجار الوحيدة) إنتاج 2017 وإخراج «شيرو هندى»، هو أول فيلم كردى وطنى فى معقل الأكراد بالشمال السورى، ومع ذلك فإن اسم المخرج الكردى «مانو خليل» يظل أحد أهم مخرجى أكراد سوريا على الإطلاق، وقد أخرج حتى الآن 16 فيلمًا وصور أكثر من ألف تقرير تليفزيونى أو فيلم إعلانى منذ استقراره فى سويسرا عام 1996، وكان آخر تلك الأفلام (السنونو) إنتاج عام 2016. 
وشأنها شأن العراق، كانت إيران، رغم حضورها السينمائى الطاغى، لا تلقى بالاً للأكراد باستثناء محاولات بسيطة أهمها أول فيلم كردى وهو (ابنة اللور) إنتاج 1934، للمخرج «عبدالحسين سبند». وفى بداية الستينيات أخرج «سيامبك باسمى» فيلمين هما (ضفاف الانتظار)، و(الطلسمان العائلي)، وكلا الفيلمين يتحدثان عن حياة الكرد البسطاء ومشاكلهم الاجتماعية فى إقليمى لورستان وكردستان.
يجمع الأكراد على أن المخرج الكردى الإيرانى «بهمان قوبادى» هو الابن الروحى لـ«كونى»، إذ إنه يتمتع بشهرة عالمية كبيرة جعلته أحد المرشحين الدائمين لتحكيم المهرجانات العالمية، كما أنه حاصل على عشرات الجوائز من مهرجات شتى عن أفلامه مثل (وقت للجياد المخمورة) و(نصف القمر) و(السلاحف تستطيع الطيران)، والذى يعتبر أهم أفلامه على الإطلاق. >