السبت 7 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

من قتل المحجوب ؟

من قتل المحجوب ؟
من قتل المحجوب ؟


خيري حسن يكتب:
إحنا اللى قتلنا المحجوب ومبارك هو المطلوب!.. وفى رواية أخرى:
ـ يَللىِ قتلتوا المحجوب
ـ مبارك هو المطلوب!.
كان هذا هو الهتاف الرسمى لأعضاء الجماعة الإسلامية، المتهمين باغتيال الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب (1930-1990) فى قلب القاهرة، وفى عز الظهر، برصاصات غادرة، وقاتلة. وقُتل معه فريق الحراسة المصاحب له، وسائقه، وعميد شرطة تصادف وجوده بالقرب من المكان! كان صوت المتهمين يعلو، وهم فى طريقهم للمحاكمة، التى استمرت 100 جلسة على مدار ثلاث سنوات، بالهتاف التالي: «إحنا اللى قتلنا المحجوب، ومبارك هو المطلوب»- حسب قول منتصر الزيات محامى الجماعة الإسلامية فى ذلك الوقت - علما بأن صفوت عبدالغنى أحد أبرز قياداته نفى هذا الكلام وقال إن الهتاف كان:( يَللىِ قتلتوا المحجوب.. مبارك هو المطلوب) ورغم هذا الهتاف، وهذا الاعتراف، وهذا التفاخر بالقتل، والدم، والإرهاب، حكمت المحكمة فى النهاية، ببراءة المتهمين جميعًا؛ إلا من تهمة حيازة سلاح من دون ترخيص، ليجف دم الرجل، بين أوراق القضية، التى تشابكت خيوطها الأمنية، والاستخباراتية، والجنائية، حتى يومنا هذا، دون القصاص العادل لاغتياله. العدل أساس الملك.
( شارع قصر العينى 1990)
 د. رفعت المحجوب الآن فى مكتبه بمجلس الشعب، الساعة تشير إلى الثانية من بعد ظهر يوم الأربعاء 10 أكتوبر من العام نفسه. عندما فرغ من إجراء عدة اتصالات تليفونية مع بعض كبار المسئولين فى الدولة، ثم استقبل بمكتبه عددًا من أبناء دائرته الانتخابية بمحافظة دمياط شمال الدلتا، وكان من بينهم شقيقه الأصغر عبدالخالق المحجوب، ومحمد عبدالمنعم، ومحمد سيد أحمد، ومحسن الشريف، وفى نهاية اليوم اصطحب مدير مكتبه فتحى عبدالمقصود وغادر المجلس متوجهًا إلى منزله للاطمئنان على زوجته المريضة قبل مغادرته القاهرة متوجهًا إلى مدينته «الزرقا»!.
( الجيزة 1990)
أمام إحدى العمارات على نيل الدقى فى المسافة ما بين الدقى والعجوزة، توقف موكب رئيس مجلس الشعب المصرى د.رفعت المحجوب الذى جاء رئيسًا له فى 23 يناير 1984، الموكب غادر الشارع.. الحرس الشخصى يسبقه لتجهيز «الأسانسير»،  د.رفعت يحمل شنطة سوداء بها ملفات وأوراق خاصة، وعلى وجهه «نظارة» طبية، تحتها حزن مكتوم فى عينيه، فهو الآن داخل الأسانسير، وبعد ثوانٍ سيكون على باب حجرة زوجته وأم أولاده، التى ترقد فى غيبوبة المرض منذ عام 1985، الشغالة تفتح له باب الشقة، والحرس المصاحب له يعود من حيث أتى.
(مدينة دمياط 1990)
فى الساعة التاسعة من مساء نفس يوم الأربعاء، وصل إلى مدينة الزرقا، والتقى هناك بكبار الشخصيات التى لها حضورها، وتأثيرها، فى سير العملية الانتخابية، ثم توجه عند الساعة الثانية عشرة مساء إلى بيته، لينام بعض الوقت، استعدادًا لمواصلة تحركاته بين الجماهير، فى الصباح، استيقظ مبكرًا، لمواصلة استقبال زواره من أبناء الدايرة، وعند الساعة الواحدة ظهرًا، استقبل هاتف المنزل مكالمة من رئاسة الجمهورية -الرئيس مبارك على الخط- يطلب منه العودة للقاهرة، ليلتقى مع وفد برلمانى سورى، حُدد له موعدً معهم فى الساعة الحادية عشرة من ظهر غدً الجمعة.  «تمام يا ريس، سأعود مساء اليوم» وقد كان!.
( الدقى 1990)
 فى المساء وصل للقاهرة، وصعد إلى شقته، ليجد على بابها طفلته الصغيرة (أميرة) عمرها 9 سنوات - حينذاك- تنتظره وتحاول أن تبتسم، تحاول أن تضحك، أن تفرح، لكن كيف تفرح؟ وهى منذ أن جاءت للحياة، ومرض السكر اشتد على «أمها» وأحكم قبضته الشرسة، على جسدها الضعيف، ثم تحول المرض إلى حالة نزيف فى المخ، ثم تحول النزيف إلى «غيبوبة» لتغيب البسمة، وتختفى الضحكة، رغم أن الأب -وهو الأستاذ الجامعى، والسياسى، والباحث، والمفكر، ورئيس مجلس الشعب- كان يحاول أن يجعلها تتجاوز «الغيبوبة» ومرض الأم، الذى طال. يبتسم د.رفعت ويقول لها: «ماما عاملة إيه النهاردة؟» تسكت الطفلة وعيونها تقول: «إمبارح زى النهاردة.. والنهاردة زى بكره» لا جديد يا أبي!.
رأى الطفلة، كان هو رأى الجميع من الأطباء إلى الأبناء، والأهل، خاصة أن الحالة ليس فيها أى تقدم.. والجميع فى انتظار كلمة النهاية.. وفى انتظار موعد الانتقال إلى رحاب رب كريم!. الكل مقتنع بذلك.. إلا شخص واحد.. هو رفعت المحجوب نفسه، الذى مازال بإحساس الحبيب، وعقل الزوج، بداخله قناعة غريبة، وعجيبة، بأن الغائب سيعود، وأن زوجته، وتلميذته، وحبيبته، وأم أولاده.. ستعود من هناك.. من عالم «الغيبوبة» التى دخلت إليها مجبرة، لا حيلة لها فيها، ولا رأى، ولا رغبة، ولا قدرة حتى على المقاومة!.
(القاهرة 1990 )
 نحن الآن فى منطقة نائية على أطراف العاصمة، الساعة تقترب من العاشرة من مساء ليلة الخميس 11 أكتوبر من العام نفسه، فى هذا المكان وهذا الزمان، التقى خمسة أفراد لم تحُدد هويتهم حتى اليوم، فهناك من يقول إنهم عرب، جاءوا لتنفيذ تلك المهمة الخسيسة. وهناك من يقول إنهم مصريون ينتمون لجماعات إرهابية جهزوا موتوسكلين، وبنادق آلية، وثلاث عبوات ناسفة وزن كل واحدة منها 300 جرام، ومدفع رشاش روسى الصنع، وقنبلة هجومية يدوية، وثلاث عبوات ناسفة جاهزة للتفجير، ومزودة بأجهزة توقيت زمنى، وعدد رصاصات وصل إلى 116 طلقة. واتفقوا، وقرروا، القيام بعملية إرهابية غادرة صباح الجمعة 12 أكتوبر عند الساعة العاشرة صباحًا فى المسافة ما بين فندقى سميراميس وشيبرد على كورنيش العاصمة.
(الدقى 1990 )
فى صباح ذلك اليوم -الجمعة- استيقظ رفعت المحجوب من نومه مبكرًا، وجلس يرتب أوراقه، ويحتسى فنجان قهوته الصباحية، ويلقى نظرة سريعة على صحف الصباح التى أمامه، ثم ترك مكانه واتجه إلى حجرة زوجته، وهو يمسك بيده بفرشاة أسنان جديدة بجوارها، وبدأ يغسل بها أسنانها مثلما كان يفعل كل صباح منذ أن دخلت فى غيبوبة المرض.
(كلية طب قصر العيني 2019)
 نحن الآن فى مكتب د.إيمان رفعت المحجوب المدرس بالكلية. عن هذا المشهد التاريخى فى حياة الأسرة تقول: أحيانًا كنت أقول له: يا أبى.. لا ترهق نفسك، فهى فى غيبوبة منذ شهور، لكننى كنت أتراجع ولا أستطيع مواصلة كلامى له، لأنه كان يرد بحدة قائلًا: «أمك ستفيق من الغيبوبة يا إيمان.. وأنا أثق فى أنها ستهزم المرض!، يا ابنتى العزيزة.. كيف أجعلها -بعدما تفيق من الغيبوبة- ترى أسنانها، ليست مغسولة بالمعجون والفرشاة» وأذكر أنه ذات يوم قال لنا: «يا أولاد أمكم.. ليست كأى امرأة.. هى بالنسبة لى جميلة الجميلات، وست الستات.. فكيف عندما تفيق ترى أسنانها، ليست جميلة وناصعة البياض؟ لذلك عليكم أن تعلموا أنه حتى ولو كانت فى غيبوبة الموت، سوف أغسل أسنانها بالفرشاة، حتى إذا ما فاقت، وجدت أسنانها بيضاء مثلما كانت تحب وتريد!».
 د. أيمان تتذكر رحلة زواجهما قائلة: أبى تزوج والدتى وهى مازالت طالبة تدرس فى كلية الحقوق جامعة القاهرة، فى هذه السنوات عاد هو من بعثته العلمية بالخارج، ومنذ المحاضرة الأولى له، لفتت انتباهه وهى تجلس أمامه فى الصف الأول، ثم تعرف عليها وتزوجها، وأنهت دراستها وهى زوجة له، ثم اشتغلت بعض الوقت فى المحاماة، وكانت مريضة أو مرضت بعد فترة من الزواج بالسكر، الذى فيما يبدو زاد عندها بعد حملها بشقيقتى الصغرى (أميرة) ثم دخلت فى غيبوبة المرض والموت.
(كوبرى قصر النيل 1990)
الساعة الآن العاشرة و55 دقيقة من صباح يوم الجمعة الموعود 12 أكتوبر من نفس العام، رفعت المحجوب يغادر منزله مسرعًا، فى طريقه إلى الوفد البرلمانى السورى فى فندق الميرديان، استقل سيارته المرسيدس السوداء رقم 7212 وخلفه سيارة الحراسة، على مقربة من فندق سميراميس -طبقا لخط سير الموكب- يقف أربعة أفراد وهناك خامس يراقب الشارع يرتدون تى شيرتات وبنطلونات جينز، الهدف يقترب، الهدف اقترب، وأصبح على بعد أمتار منهم، استعدوا له جيدًا، وحرروا أجزاء الأسلحة التى بين أيديهم، بعدما أخرجوها بسرعة شديدة، الآن لم يعد بينهم وبين الهدف سوى متر واحد فقط، فى هذا اللحظة الحاسمة، والفارقة، والقاتلة، أطلقوا 4رصاصات نافذة على الزجاج الأمامى للسيارة المرسيدس السوداء، ثم قام سائق الموتوسيكل الأول باعتراض سيارة الحراسة( بيجو 545) وأطلق عليها وابلًا من الرصاص المكثف، والعنيف، الذى تسبب فى إخراج النصف العلوى للسائق خارج مقعدة من شدة وكثافة النيران، كما أطلق سائق الموتوسيكل الثانى وزميله الرصاص على نزلاء فندق سميراميس لإرهاب النزلاء، فى هذه اللحظة، تخطت سيارة المحجوب سيارة الحراسة، فكان فى انتظارها الموتوسيكل الثانى الذى بدأ من فوقه الإرهابيان الآخران، إطلاق وابلً من الرصاص من رشاش عيار 7 × 39 بعدما تم إطلاق الرصاص على خزان الوقود وكاوتشوك السيارة التى توقفت بعد متر واحد يمين الرصيف المواجه لفندق شيبرد، وتحت النيران المستمرة والعنيفة، حاول المحجوب الاحتماء بالجانب الأيمن من السيارة، إلا أن الارهابى الثانى بادره بإطلاق، وابل جديد من الرصاص الخاطف، والسريع، والمُركز تجاهه، فلقى مصرعه على الفور، بعد دقائق تحول مسرح الجريمة إلى بركة من الدماء، قُتل فيه المحجوب وسائقه واثنان من حراسه، وأصيب العقيد عادل سليم مفتش بمباحث مديرية أمن القاهرة، تصادف وجوده بالقرب من موقع الحادث، وحاول مطاردة أحد الإرهابيين الفارين وسط الشوارع، الرئيسية والجانبية، فبادره الإرهابى بإطلاق النار عليه بكثافة، فسقط قتيلًا هو الآخر. 
(كلية طب قصر العينى 2019)
 مازلت أجلس مع د.إيمان التى فرغت من فنجان قهوتها، وفرغت أنا من فنجان الشاى، ثم عدت معها إلى يوم الحادث الذى قالت عنه: صباح يوم الجمعة رن جرس الهاتف فى منزلى.. ووجدت أصدقاء يسألوننى عنه؟ وعندما شعروا أننى لا أعرف شيئًا.. لم يخبرونى بما حدث.
 بعد قليل عاد التليفون إلى الرنين.. فى هذه المرة رد زوجى.. وعلم بالخبر. ثم قال محاولًا امتصاص الصدمة: يبدو أن عمى حدث له شىء ما.. وتحركنا بسرعة إلى بيته على نيل القاهرة.. وفى الطريق كنت علمت بالخبر المأساوى والمؤلم والكارثى الذى أحل بى وبالأسرة كلها..ثم سكتت قليلًا وقالت: تلك الأيام واللحظات لا أنساها، الحزن وقتها لا معنى له.. البكاء وقتها لم يكن يكفينى.. الصراخ إذا صرخت كان سيزلزل الأرض من حولى.. لماذا فعلوا هذا؟ ماذا صنع أبى، غير أنه عاش، وتعلم، وعلّم، واجتهد، وسهر، وسافر من أجل البلد!، من هؤلاء؟ ولماذا صنعوا به ذلك؟ أسئلة كثيرة دارت فى ذهنى -ومازالت- ورددها لسانى بالصمت أحيانًا، وبالجهر أحيانًا.. نعم سألت ومازلت أسأل.. من قتل أبي؟ ولماذا قتلوه؟ وبأى منطق؟ وبأى فكر؟ وبأى منهج؟ قلت لها.. بعد أن هدأت بعض الشىء: قيل إنه تم اغتياله بالخطأ وأن الجماعة الإسلامية كانت تخطط لقتل وزير الداخلية وقتها الراحل عبدالحليم موسى، فتصادف مرور موكبه هو!، قالت: نعم قيل هذا الكلام. قلت: وقيل أيضًا إن هناك شخصيات عربية ربما من العراق أو إيران -حسب رؤية الرسامين الذين رسموا ملامح الجناة، طبقًا لوصف شهود الحادث- فهل تتفقين مع هذا الرأي؟ردت منفعلة إلى حد ما: أنا لست جهة تحقيق، ثم إن القضاء برأ المتهمين.. وهم الذين كانوا يهتفون طيلة جلسات المحاكمة التى وصلت 100 جلسة: «إحنا اللى قتلنا المحجوب ومبارك هو المطلوب»!.
 ورغم ذلك الاعتراف الذى هو أصدق الأدلة، قال القاضى: حكمت المحكمة بالبراءة!، ثم قال موجها كلامه للمتهمين: «إن كنتم فعلتموها فحسابكم على الله»!، أما أنا فليس عندى ما أقوله للجميع، سوى ما قاله الشاعر الراحل «أمل دنقل» على لسان زرقاء اليمامة، عندما صرخت قائلة:
(أبى لا مزيد.
أريد أبى..
عند بوابة القصر..
 فوق حصان الحقيقة منتصبًا
 من جديد
 ولا أطَلب المستحيلُ.. ولكنه العدل).
العدل أساس الملك!.