هارون الرشيد صاحب الـ 100 ركعة يوميًا والـ2000 جارية!

للواقعة الواحدة أكثر من رواية وأكثر من راوٍ، ولذلك تبقى وقائع التاريخ فى انتظار من ينظر إليها بإنصاف؛ فينفض عنها ما لحق بها من خداع، ويزيل سُحب الزيف عن أصل الحقيقة ويعيد إلى الشخصيات المظلومة بريقها ويجلى ما علق بها من تشويه، ليست هذه بالضرورة مهمة الباحثين وحدهم، بل هى مهمة كل إنسان حر يرفض أن يسلم عقله لمن أرادوا احتكاره واختزاله فى مجرد رقم تابع يتلقى ما يقولون ليردده وسط من لم يسمعوا.
كثير من الأبطال التاريخيين بل الدينيين أيضًا انطوت حكاياتهم على مشاهد مزيفة أحيانًا، ومصنوعة أحيانًا أخرى، وموضوعة أحيانا ثالثة، ربما تم ذلك تقربًا إليهم وطمعا فى عطاياهم، أو خوفا من قوتهم وتنكيلهم.
على الجانب الآخر، نجد شخصيات دائما ما ترد سيرهم فى خانة الأشرار، وتصب عليهم اللعنات وتطالهم أيدى التحريف والتشويه، وتسند إليهم كل الأعمال السيئة وإن لم يأتوها.
عند تقفى أثر هارون الرشيد، أشهر خلفاء العباسيين، ليس بمقدورك أن ترجّح رواية على أخرى، تحاول فقط أن تتحرى «الحكاية» الأقرب إلى المنطق، خاصة أنه لم ينل أحد من خلفاء بنى العباس ما ناله «الرشيد» من صيت وشهرة تشغل الناس حتى اليوم، وتنقسم الآراء حوله؛ بعض الناس يراه الخليفة العابد الذى يصلى فى اليوم الواحد 100 ركعة ولا يمنعه عن الحج «ماشيًا» إلا قيامه بغزوة، والآخر يراه على خلاف ذلك تمامًا، حاكمًا يؤثر مجالس اللهو والشراب يجمع فى قصره 2000 جارية.
هناك رأى ثالث، فضّل أصحابه دمج كل الروايات المتناقضة حول «الرشيد» ليكون الخليفة المعتدل الذى يجمع العبادة والطرب، والنسك واللهو، بين الـ 100 ركعة والـ 2000 جارية فى آن واحد، ليصبح ممن استطاعوا تحقيق معادلة «ساعة لربك وساعة لقلبك»، العجيب أصحاب الآراء الثلاثة، رغم اختلافهم، يرون فى الرشيد أيقونة ومثل يجب الاقتداء به، وهو ما يعنى صعوبة تبنى رواية واحدة باعتبارها حقيقة مطلقة.
رغم أن «الرشيد» ينتمى للبيت الهاشمى؛ فرأس الدولة العباسية، هو عم النبى، فإن أبرز ما يناله من انتقادات أنه كان يستكتب بعض العلماء لوضع أحاديث غايتها تمجيد البيت العباسى، منها على سبيل المثال ما رواه الطبرانى أن النبى أخذ بيد العباس ويد علىّ، وقال «سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جورًا وظلمًا، ويخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمى، فهو صاحب راية المهدى».
يعلق أحمد أمين على هذه الرواية «الموضوعة» فى كتابه «هارون الرشيد» ويرى أن واضعها ماكر، إذ جعلها رواية ذات وجهين حتى إذا غلب فريق ادعى أنه المقصود؛ لأنه لم يتم تعيين المشار إليه فى كل مرة، وبالتالى أوّلها دعاة بنى العباس بأنهم أصحاب الرايات، لكن هذا الاتهام يبقى محل جدل أيضًا.
لكن لرسم صورة أفضل لشخصية الخليفة «أو لزيادة الغموض» يجب أن نتطرق للحديث عن المرأة الأولى التى أحبها «الرشيد» وهو فى سن السادسة عشرة، كانت ابنة عمه «زبيدة»، وتم الاحتفال بزواجهما داخل القصر الأسطورى المسمى «قصر الخلود» ويقول ابن خلدون فى وصف الزواج «لقد تقاطر الناس من كل الأمكنة. وبهذه المناسبة وُزعت مبالغ مالية لم يشهد لها الإسلام من قبل مثيلا».
ويروى المسعودى فى مروج الذهب عن «زبيدة»: لقد كانت الأولى التى تناولت الطعام فى أوانٍ من الذهب والفضة، تزينها أحجار نفيسة، والمرأة الأولى تصحبها حراسة تتكون من ذكور تعرضوا لعملية خصاء وعبيد يصطفون بجوانبها يمتثلون لأدنى أوامرها ويطبقون إشاراتها.
أيضًا كانت الأولى أيضا التى استعملت محملا فضيا من الأبنوس وخشب الصندل، مع أقفال من الذهب والفضة، وابتكرت موضة النعال المزركشة بأحجار ثمينة، وكذا المصابيح ذات الإنارة الرمادية.
وعلى الرغم من خيلاء «زبيدة» وعشقها للترف، فقد أظهرت اهتماما كبيرا بالوسط ومعطيات الحضارة والتمدن، على سبيل المثال كانت صاحبة الفكرة ببناء الأحواض المتواجدة على الطريق الرابطة بين بغداد ومكة، من أجل تسهيل السفر إلى الحج.
عند الحديث عن هارون الرشيد لا بد من ذكر «ألف ليلة وليلة»؛ إذ أضفت تلك الحكايات على الرشيد وعصره روعة وشهرة لم تزدها القرون إلا تخليدًا ورسوخًا، كما أثرت هذه الصورة التى رسخها الكتاب بالتبعية فى الآداب الغربية التى ترجم إليها.
وفى معظم حكايات «ألف ليلة وليلة» نرى الخليفة العباسى فى صورة الأمير الضجر الذى يطلب السلوى فيأتيه وزيره جعفر البرمكى ببعض رواة وشعراء العصر مثل الأصمعى وأبى نواس وغيرهما يروون له أغرب ما سمعوا أو شهدوا من القصص والأخبار.
أو يدفعه الملل ليطوف ليلًا فى أنحاء عاصمته ليتفقد أحوال الرعية، متنكرًا فى زى تاجر، لتسوقه المقادير إلى منزل يرى فيه أغرب المشاهد ويسمع أغرب القصص والروايات.
ومن القصص التى نسبت إلى عصر الرشيد قصة السندباد البحرى الشهيرة وسفراته السبع، أما القصص التى كان الرشيد بطلًا فيها عديدة منها قصة «قوت القلوب» الجارية الحسناء التى شغف بها، وقصة الرشيد مع خليفة الصياد وقصته مع البنت العربية التى أنشدت أبياتًا فطلب منها تغيير القافية واستبقاء المعنى فغيرتها مرارًا فى مقطوعات عجيبة وأعجب بها وتزوجها.
ونجد الحكايات عن جورى بلاط «الرشيد» اللاتى قدمن من بلدان تعرضت للغزو منذ عهد قريب، وتبرز مواهبهن فيما يحملنه من أشياء غريبة وثقافات مختلفة، لكن حتى تصبح الجوارى مغنيات، يتحتم عليهن الخضوع لتكوين صعب، إلى جانب التقنيات الصوتية والآلية، يجدر بهنّ إتقان اللغة العربية وبنائها النحوى المعقد.
وبرزت الجارية «فضل» فى بلاط الخليفة باعتبارها نموذج يُحتذى به من قبل المغنيات العربيات طيلة قرون، ويأتى وصفها فى كتب التراث «كان جلدها داكنا، تمتلك معرفة أدبية واسعة بليغة وصاحبة مهارة رائعة» كما كان لها قدرة كبيرة على تضليل محاوريها من خلال تلاعبها بالكلمات والتشكلات اللغوية غير متوقعة.
لكن انقسمت آراء المؤرخين أيضًا حول «ألف ليلة وليلة»، فالبعض يرى أن المقصود بها تشويه صورة الخليفة المسلم وترسيخ صورة ماجنة عنه، فيما ذهب البعض إلى أنها كتبت فى عهد «الرشيد» وأراد مترجمو الكتاب تملقه خشية أن ينقل بهم أو أنه رآها خير دعاية له فأفاض على صاحب الترجمة من عطائه ليخرجه بهذه الصورة.
بينما يرجع بعض المؤرخين سبب وجود الرشيد بهذه لصورة فى «ألف ليلة وليلة» لأنها ترجمت فى عصور مختلفة وتم الزيادة عليها فى كل عصر تبعًا للروايات والحكايات الشعبية غير معلومة السند.
لكننا بالنظر للخليفة المهدى والد «الرشيد» نجده متجاوزًا لكثير من «تابوهات» عصره وهو ما سبب له الكثير من المتاعب؛ فلم يمنع زوجته من مجالسة الرجال ومحاورتهم، ونجد ابنته «البانوقة» كانت تحب ارتداء ملابس الغلمان وتتقلد بالسيف وتهوى ركوب الخيل وسباقاتها، وقيل فى وصفها إنها كانت فتاة سمراء فاتنة الجمال تشبه أمها «الخيزران» ، كما كانت تمشى مع أبيها فى الاستعراضات الشعبية، وقال عنها الطبرى فى كتابه الرسل والملوك: «وإنى لأرى البانوقة تمشى وفى صدرها شيئًا من ثدييها» فى إشارة لأنها كانت متبرجة.
تبعًا لهذه الروايات نحاول رسم صورة للبيئة التى نشأ فيها «الرشيد»، ليكسر بدوره «تابوهات» عصره، إذ يعتبر أول خليفة أقام مباريات الرماية بالقوس، ثم كرة المضرب، كما كان يقدم مكافآت للمتفوقين فى هذه الألعاب، أيضًا كان أول خليفة يلعب الشطرنج والنرد.
وقد تميز عصره بالحضارة والعلوم والازدهار الثقافى والدينى كذلك ازدهار الفن والموسيقى، كما أسس مكتبة كبيرة فى بيت الحكمة فى بغداد وبدأت بغداد خلال فترة حكمه بالازدهار كمركز للمعرفة والثقافة والتجارة وغدت بغداد قبلة طلاب العلم من جميع البلاد وابتكرت عدد من الاختراعات كالساعة المائية.
كما أنشئ فى عهد «الرشيد» أول مصنع للورق ببغداد سنة 795 م وبنى المساجد الكبيرة والقصور الفخمة واستعملت القناديل لأول مرة فى إضاءة الطرقات والمساجد.