الثلاثاء 8 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

«ملنر» فى يوميّاته: وجودنا فى مصر كان خطأً كبيرًا

«ملنر» فى يوميّاته: وجودنا فى مصر كان خطأً كبيرًا
«ملنر» فى يوميّاته: وجودنا فى مصر كان خطأً كبيرًا


«لن يحظى حكمنا ووجودنا فى مصر على الإطلاق بالقبول الشعبى من جانب أى فئة من أهالى البلاد» كتب ملنر هذه الخاطرة فى دفتر يومياته وهو بالقاهرة بتاريخ 5 ديسمبر 1919. حضر اللورد الإنجليزى إلى مصر فى مهمة رسمية تعامل معها بكل صلف وحنكة، متقبّلا فى نهايتها بفشل المهمة وعجزه عن استمالة زعيم الثورة المصرية.

تُوفّر يوميات اللورد ملنر التى عثرت عليها منى أنيس ضمن وثائق وزارة المستعمرات بالأرشيف الوطنى للمملكة المتحدة بلندن، سجلّا حيويّا بعيدا عن تفاصيل عمل اللجنة ونتائجها التى احتواها تقرير اللجنة البريطانية الرسمى وتحتفظ وزارة الخارجية المصرية بنسخة منه، فى مقابل الاقتراب من رؤى الرجل ولقاءاته الرسمية وغير الرسمية مع شخصيات مصرية بارزة، بينها وزراء وصحفيين كبار، طوال ثلاثة أشهر هى مدة إقامته فى القاهرة من 1 ديسمبر 1919 حتى 6 مارس 1920؛ يوم رحيله وأعضاء لجنته نهائيا عن مصر. جئنا إلى مصر فى اللحظة الخطأ هو مختصر ما دوّنه ملنر فى خاطرة أخيرة بتاريخ 8 مارس 1920، حيث كتب ملنر من «القدس»: «لحظة وصول اللجنة إلى مصر لم تكن مناسبة لنجاح مهمتها، وهكذا كان من الحتمى ألّا تنجح محاولاتنا، وعلى عكس المستهدف انتهت إلى تشجيع المتطرّفين على مواصلة تحريضهم». جئنا إلى مصر فى اللحظة الخطأ
وثيقة اليوميات التى حرّرتها أنيس وترجمها صلاح أبو نار وصدرت حديثا فى كتاب عن دار الشروق مثيرة جدا فى متابعة حلقة خفية ومصيرية من تاريخ الثورة المصرية. حضر اللورد الإنجليزى المحنّك إلى القاهرة قاصدا دراسة الوضع عن قرب «واجب أساسى هو تقصّى حقيقة الأوضاع فى مصر»، وكتب شيئا أراده أن يكون تسجيلا لـ«خبراته الشخصية» يُعينه على «الاحتفاظ بصورة واضحة ومسلسلة لما حدث». من غرفة الفنادق وشرفات القصور وعلى موائد العشاء وحفلات الاستقبال لم يلتفت إلى شيء حميمى يخص مصر وشعبها ولم يكن مشغولا قط بشيء خارج مهمته المقدّسة. يتحدّث بعنصرية واستعلاء عن «ثرثرة» القادة المصريين وعن «فوضى» مظاهرات طلّاب المدارس و»عار التهرّب من الدراسة». يُطلق على المتعاونين والمتفاوضين مع الجانب الإنجليزى لقب «الوطنيين»؛ بينما «المشاغبين» «الساخطين» «المحرّضين» «المتطرفين» على أتباع سعد زعلول. تحكى هذه اليوميات كما كتبت منى أنيس «قصة ملنر وقصة كرومر من قبله وقصة ونستون تشرشل من بعده»، عن جيل من أبناء الأرستقراطية البريطانية الذين استخدموا المستعمرات ملعب تدريب لتعلّم فن الإدارة ثم العودة إلى الإمبراطورية لتقلّد المناصب السياسية الرفيعة.
بفندق سميراميس؛ كتب فى يومياته بتاريخ 8 ديسمبر  1919 واصفا المسيرات فى الثورة: «القاهرة كلها، بل البلاد كلها، حلّ بها الجنون لعدّة أيام».. «هناك موجة معدية من الهياج اجتاحتهم جميعا».. «نوبة سعار».. «قدر هائل من الخطر تمثله هذه الحشود الهائجة فاقدة الرشد».. «ما جرى كان مفاجأة كاملة».
فى يوميات ملنر فى مصر، لقاءات وأحاديث مع شخصيات مصرية وزعماء أبرزهم عدلى يكن وأحمد مظلوم باشا وزير الحقانية فى وزارة مصطفى رياض وعدد من الصحافيين رؤساء تحرير كبريات الصحف منهم بشارة تكلا رئيس تحرير الأهرام، وهذه بالذات شملتها قائمة بوصف عام للصحافة فى مصر أعدّت لملنر وقيل فى وصفها «الأهرام صحيفة انتهازية تسعى للربح وتطالب حاليا بالاستقلال التام» بينما جاء فى وصف «المقطّم»: «الصحيفة المصرية الوحيدة المعتدلة والموالية للإنجليز». كان اللورد ملنر حريصا على عدم فقد الاتصال بعدلى بوصفه «صديق زغلول الحميم جدا» كتب: «الطريق الصحيح إلى زغلول يمرّ عبر عدلي»، وكان موقف عدلى يكن معتدلا وهادئا ومهادنا للإنجليز، لكنه لم يفلح فى مهمته أيضا. وهو الذى اقترح عوضا عن تكوين وفد رسمى إلى لندن يشمل الزغلوليين، تكوين وفد غير رسمى لا يغيب عنه زغلول وأنه سيسافر إلى باريس حيث يقيم سعد من أجل اقناعه، إلا أن اللجنة تنتهى من عملها من دون أن يأخذ هذا الاقتراح الذى شجّعه ملنر بشدّة، حيّزه من التنفيذ.
تعطى اليوميات انطباعا مخادعا بأن ملنر يعرف لتوّه مصر والمصريين، بينما يتكشّف لنا وجهه الاستعمارى العتيد شيئا فشيئا.. تُعرّفنا منى أنيس على معلومة قد تكون غائبة عن معظمنا أن ملنر عمل مع كرومر سابقا فى مصر لعدة سنوات، وهو الذى قام بكتابة الجزء الأساسى من وعد بلفور، وألّف كتابا بعنوان «إنجلترا فى مصر» صدرت طبعته الأولى عام 1892، تحدّث فيه عما أسماه «الحماية المقنّعة» بأن الخطأ الكبير الذى ارتكبته سلطة الاحتلال فى مصر هو أنها لم تعلن منذ البداية فرض الحماية على مصر، وأن الكثير من مشاكل بريطانيا فى مصر يرجع - كما تقتبس من كتاب ملنر - إلى وجود «حماية مقنّعة غير واضحة وغير محدّدة.
قبل مجيء اللورد ملنر - وزير المستعمرات - إلى مصر، كان قد قابل سعد زغلول فى لندن وظل الأخير رافضا بعزم وإصرار لجميع الإغراءات بقبول التفاوض. يكتب ملنر فى اليوميات أن حضور اللجنة إلى مصر أضعف موقفها وأعطى إيحاءً بأن الإنجليز راضخون للوضع القائم، وما حدث فى أرض الواقع أن اللجنة لملمت أوراقها بعد ثلاثة أشهر كانت قيادات بريطانية قبل مصرية تحثّ أعضاءها وملنر على سرعة المغادرة. وأن اللورد اللنبى عبّر لملنر عن سخطه على اللجنة لأنها كبّلت عمله فى قمع المعارضة والمظاهرات، حتى لا يبدو أنه يشهر قبضته الحديدية بينما تسعى حكومته للتفاوض السلمى مع المصريين.
تفاصيل أخرى فى اليوميات وتدوينات أكثر إثارة، ومع مرور الوقت يزداد إدراك ملنر لصعوبة موقفه وعجز مهمة لجنته.. يكتب فى خاطرة بتاريخ 13 فبراير 1920: «كلما مضت الأيام على وجودنا فى مصر، أصبح ما أدونه هنا أقل وأقصر، ووقتنا يقترب من نهايته وأصبحنا محملين بأعباء جسيمة». أما أكثر جوانب اليوميات طرافة؛ الصورة التى جاء عليها الملك فى يوميات ملنر، حيث بدا غير مبالٍ ومهتم أكثر بتمكين مكانته ونفوذه، أو هكذا رسمه اللورد ملنر فى يومياته.