الثلاثاء 1 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

فن الحرية.. وحرية الفن !

فن الحرية.. وحرية الفن !
فن الحرية.. وحرية الفن !


محمد هانى يكتب:

لا يمكن أن نفهم دور «روزاليوسف» –المجلة – ولا علاقتها بحركة الفن والثقافة فى مصر عبر 75 عاما دون أن نقيس ذلك على مثلث ثابت لم تتغير أضلاعه : السياسة.. الإبداع.. والحرية !
 على أضلاع هذا المثلث تحركت علاقة «روزاليوسف» بالفن والثقافة بصرف النظر عن طبيعة النظام الحاكم أو اتجاهاته، وبصرف النظر أيضا عن منظومة القيم الاجتماعية التى تطفو على السطح أو تختفى فى فترة ما.

 فى جميع العهود من الملكية إلى الثورة والاشتراكية إلى التعددية الحزبية لم تتعامل «روزاليوسف» مع الفن والثقافة داخل  الحدود الإبداعية المغلقة أو وفقًا لنظرية «الفن للفن» التى تنظر  إلى العمل الإبداعى وتقيمه دون أن تهتم كثيرًا بعلاقته بالمناخ السياسى والاجتماعى خارجه.. وفى الوقت نفسه لم تتبن «روزاليوسف»  الصيغة الصحفية التى كانت سائدة – ومازالت – فى التعامل مع الفن تحديدًا على أنه نوع من التسلية فقط وعلى اعتبار أخبار نجومه وعلاقاتهم وآرائهم  نوعا من الترفيه عن القارئ، وهى الصيغة التى تحولت إلى جملة شعبية ساخرة توضح العلاقة السطحية والمزيفة بين المحرر الفنى والنجم وتلخصها فى سؤال من ثلاث كلمات : «أين ترعرعت سيدتى ؟»
 هذا السؤال الذى وجهه صحفى متجول إلى نجمة مدعية فى أحد مشاهد فيلم نجيب الريحانى الشهير «لعبة الست» كان – ومازال فى حالات كثيرة – يعكس الحالة البائسة للصحافة الفنية والتى تنحصر بين محرر جاهل خاضع يسأل سؤالا تافها  ونجم «أو نجمة» مدعية أو مصنوعة تعطى إجابة مضللة وقارئ يستقبل من الطرفين مجرد حوار طريف قد يشبع فى بعض جوانبه فضوله للنميمة.
 بين اتجاه الإغراق فى التنظير والتخصص الذى يضع الفنون فى برج عاجى  ينظر إلى الجمهور من فوق، واتجاه التفاهة والسطحية الذى يتعامل مع مهنة الصحافة ومع الفن من منطقة دنيا، اختارت «روزاليوسف» طريقا ثالثا لم يسبقها إليه أحد، ولم ينازعها فيه – حتى الآن – أحد ايضا.
 التفاعل مع الفن والثقافة  فى «روزاليوسف» يأخذ مذاقه الفريد وتأثيره القوى من خلال النظر إليهما عبر موقفهما السياسى – والاجتماعى بالتالى – وعبر قدرتهما على الدخول فى حالة  الإبداع التى تقدم جديدا أو مبكرا، ثم يأتى هذان المعبران  على طرفى جسر من الحرية يضيق أو يتسع، ولكن المجلة تدعمه دائما، وتدافع عن السائرين فوقه، وهى مستعدة فى جميع الأحوال لأن تدفع ثمن مواقفها الواضحة التى لا تكتفى بالرصد والتحليل، وإنما تدخل فى حدود التأييد أو الرفض لاتجاه فنى أو ثقافى معين، وهو ما يتحول فى كثير من الأحيان إلى معارك تصطدم فيها أحيانا بسلطة سياسية أو تنفيذية أو رقابية أو دينية أو تصطدم – ربما- بقوالب اجتماعية موروثة وجامدة، ويمكننا أن نلخص ذلك فى أن «روزاليوسف» تحرص دائما على «ممارسة الفكر»، وليس مجرد استقباله  سلبيا على أن تسبق المجتمع بخطوة لا أن تستسلم لقوالبه المتوارثة.
 وفى الحقيقة لم يكن ممكنا أن تتبنى «روزاليوسف» اتجاها غير هذا  فى التعامل مع الفن والثقافة لأن هذا الاتجاه بأبعاده الثلاثة «السياسة والإبداع والحرية» تلخصه وتجسده تماما حالة صاحبة المجلة ومؤسستها نفسها «فاطمة اليوسف».. فهى أولا «سيدة» اختارت  أن تمارس حريتها وأن تكسر فى بدايات القرن نموذج امرأة الحريم التابعة أو المستضعفة المنتهكة.  وهى ثانيا «فنانة» فرضت كيانها واسمها بقوة فى تاريخ المسرح العربى حتى لقبت بـ «سارة برنار الشرق»، أى أنها تعرف تماما معنى كلمة الإبداع وقادرة على صنعه ومعتادة أيضا على الاصطدام بالنظرات الضيقة والقاصرة فى المجتمع. ثم هى ثالثا أول امرأة فنانة – ربما فى العالم – تصدر مجلة سياسية وتديرها.
 من  الطبيعى إذن والحال كذلك أن يحدد هذا الوضع نوعية الكتاب والصحفيين الذين انتموا إلى روزاليوسف عبر تاريخها، ومنذ بدايتها، ولم يكن غريبا أن تجتذب هذه المجلة رجالا متحررى العقول لا تسيطر عليهم عقدة العمل مع – أو تحت رئاسة – سيدة وهذا النوع  من العقول لا يمكن – بالتالى – أن يكون  خاضعا للسائد مهنيا أو إبداعيا، ولا أن يكون مجرد عقلية محايدة فى النظر  إلى القضايا الفنية والثقافية بلا رأى ولا موقف.. إنهم نوع من الرجال استطاعوا عبر أجيال متعاقبة أن يمارسوا فن الحرية.. ويؤسسوا له بنفس  القدر الذى دافعوا فيه عن «حرية الفن».
 ولم تكن مصادفة أن تنتمى لمدرسة روزاليوسف أسماء من الكتاب والصحفيين تجاوزوا حدود العمل المهنى الصحفى  ليصنعوا أسماءهم كمبدعين كبار مثل : عبدالرحمن الشرقاوى بمسرحه المتأمل الثائر، وصلاح عبدالصبور الذى أسس لمدرسة الشعر الحديث، وأحمد عبدالمعطى حجازى الذى جلس – ولا يزال – على مقعد عمادة الشعر المصري، وجميعهم إلى جانب غيرهم ممن تربوا فى مدرسة «روزاليوسف» لم ينفصل الإبداع لديهم عن الموقف السياسي، ولم يسر فى أنهار المهادئة الهادئة، لقد تفاعلوا  كصحفيين وكتاب مع الحركة السياسية والثقافية، وشاركوا فيها فى نفس الوقت.
 هذا النموذج يصل إلى ذروة التجسد مع اسم «إحسان عبدالقدوس» الذى تأثر إلى أقصى حد بتركيبة والدته «فاطمة اليوسف» ثم تجاوزها. ففى الوقت الذى كان يفجر فيه كصحفى الحملة ضد الأسلحة الفاسدة فى حرب فلسطين «1948» على صفحات «روزاليوسف» كان هو نفسه الروائى الذى نشر على هذه الصفحات رواياته التى هزت المجتمع من سباته العميق وحرضته على إيقاظ رغبته الحقيقية فى التغيير، حين أخرج «إحسان» أدق مشاعر المرأة من تابوت التقاليد الجامدة وربطها ببراعة صحفى وموهبة أديب بالتيارات السياسية والاجتماعية، لم يكن إحسان عبدالقدوس صحفيا فقط، ولا أديبا فقط حين كتب «أنا حرة» أو «الطريق المسدود» – على سبيل المثال -  ولم تكن مصادفة أن يرتبط تغيير صورة المرأة فى السينما بداية من الخمسينيات باسم ينتمى إلى «روزاليوسف» استطاع أن يؤسس لمرحلة بكاملها فى تاريخ السينما المصرية، وأن يعطى دفعة – ربما لم تتكرر حتى الآن – لمبدأ «حرية الفن» بل إن إحسان الصحفى والإنسان والمبدع كان  التعامل معه  نقطة تحول حياة  عدد كبير من رموز الفن المصرى ونجومه اللامعين، فعلى حين ارتبطت صورة نجمة  مثل «لبنى عبدالعزيز» فى ذهن الجمهور بشخصيتها المتمردة فى «أنا حرة».. ثم بجرأة الكشف  عن مشاعر امرأة حائرة بين الحب الأول ومعايير العقل والمجتمع فى «الوسادة الخالية»، كان إحسان نفسه هو الذى أخرج نجمة نجمات الشاشة العربية «فاتن حمامة» من أسر شخصية الفتاة المغلوب على أمرها، وأخرج معها بالتالى الفتاة المصرية من نفس القالب  حين قدمت على الشاشة روايات مثل «الطريق المسدود»  و«لا أنام» التى ربما كانت أول عمل سينمائى لا يجعلنا ننظر إلى نوازع الشر فى النفس الإنسانية نظرة أحادية سوداء.. وبنفس قوة التأثير كان إحسان مرحلة مهمة فى تاريخ أهم مخرج واقعى فى تاريخ السينما المصرية، هو صلاح أبوسيف، ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يصل إحسان عبدالقدوس إلى ذروة الجرأة فى تحليل العلاقات الاجتماعية ولعبة الرجل والمرأة فى فيلميه «أبى فوق الشجرة» و«أنف وثلاث عيون»..
ثم تظل رواياته قادرة على صنع تيارات جريئة ومراحل جديدة فى مسار نجمات أجيال تالية مثل «نبيل عبيد» التى نستطيع أن نقول  إنها صنعت اسمها كنجمة كبيرة من خلال التعامل مع روايات إحسان  بداية من «وسقطت فى بحر العسل» ووصولا إلى «العذراء والشعر الأبيض»، مرورا بأعمال مثل «ولا يزال التحقيق مستمرا» و«أيام فى الحلال».
 فنموذج الصحفى والكاتب الذى يصل إلى أقصى حدود الاحتراف المهني، ولا يتردد فى الوقوف موقف الناقد والرافض كثيرا لبعض ممارسات السلطة وظواهر المجتمع، والذى ينظر إلى الفن والثقافة باعتبارهما «حالة  سياسية اجتماعية» أصبح نموذجا تتوارثه الأجيال «جينيا» فى «روزاليوسف» بحيث نستطيع  أن نقول إن هناك حاسة «سادسة أو سابعة أو ثامنة ولا يهم» يكتسبها المنتمون إلى هذا المكان، وتحدد طبيعة نظرتهم للفن والثقافة ثم تفاعلهم معهما بصرف النظر عن الموقع الوظيفى داخل المكان،  يستوى فى ذلك رؤساء  مجالس الإدارات  ورؤساء التحرير والمحررون الشبان، وبالتالى لم يعد غريبا أن تتصدر عناوين الفن والثقافة فى أحوال  متعددة غلاف أعرق وأقوى مجلة سياسية.
 فعندما ترفض سلطة دينية أو رقابية عملا فنيا أو عندما يحال فنانون إلى المحكمة  متهمين فى قضية آداب بسبب عمل فني.. أو عندما تحاصر تيارات التطرف والإرهاب حرية مفكر أو مبدع وتحرض على قتله أو اغتياله معنويا، لا يصبح الأمر مجرد حالة فنية، بل قضية سياسية..  اجتماعية، وهى أرض «روزاليوسف» التى تجيد اللعب عليها، وتستطيع إحراز الأهداف من فوقها.
 ليس غريبا إذن أن تفضح «روزا» قتلة فرج فودة وتقف مساندة لمخرج مثل يوسف شاهين فى قضايا «المهاجر» و«المصير»، وأن تصبح بيتا آمنا لنجوم مصر حين تحال نجمة مثل «معالى زايد» إلى المحكمة بسبب مشاهد فى فيلم سينمائي.. فيجتمع فى «روزا»  أكثر من 70 نجما يتصدرهم رئيس اتحاد النقابات الفنية ونقيب الممثلين لتصل صرختهم عبر صفحاتنا، وتجد صدى لها، كذلك لم يكن غريبا ألا تجد قيادات الإعلام حرجا فى الجلوس إلى مائدة مواجهة ساخنة فى «روزاليوسف» نسألهم فيها عن موقف الإعلام المصرى من قضايا الحرية فى عصر السماوات المفتوحة، ولم يكن غريبا  أن تكون «روزا» نفسها هى التى فجرت الآن قضايا السطو على تراث مصر الفنى والثقافي، ومازالت تقف بقوة فى وجه صفقة احتكارية مريبة تهدد تاريخنا ومستقبلنا الفنى والثقافي.
إن المجلة  التى لم ترفع رايات المهادنة لسلطة ما هى التى لم تستسلم أيضا لسطوة سلطة فنية مهما كانت، لذلك لم يكن غريبا أن تتبنى موهبة مطرب مثل عبدالحليم حافظ  فى عز سطوة مواهب مثل أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، ولا أن يكون أحد رموز روزاليوسف صلاح جاهين هو الأب الروحى لموهبة متفجرة وجديدة مثل سعاد حسني.
 الأمثلة أكثر من القدرة على حصرها فهى تمتد عبر 75 عاما كاملة ظلت روزاليوسف خلالها بحق هى مدرسة «فن الحرية وحرية الفن».