فى ذكراه الـ 12 الاغتيال الثانى للأب متى المسكين

وفاء وصفي
احتفل، أمس، دير القديس أبو مقار بوادى النطرون بالذكرى الثانية عشر لرحيل الأب متى المسكين والذى اشتهر بعلمه الكبير فى العالم كله، وفى الوقت الذى تحتفى به كنائس العالم كأعظم عالم مسيحى قبطى فى العصر الحديث لا يستطيع أحد داخل الكنيسة القبطية أن يجاهر باتباعه لفكر الأب متى حتى لا يتهم بنشر التعليم الخاطئ ويحاكم على ذلك.
الغريب فى الأمر أنه فى الوقت الذى لم يستطع فيه البابا شنودة الثالث محاكمة الأب متى المسكين بتهمة نشر التعاليم الخاطئة واكتفى بالرد عليه بنشر كتب أخرى؛ وهو أكبر دليل على صحة تعليمه إلا أن محبى البابا شنودة يقومون الآن بشن أشرس حرب تعليمية ضد فكر الأب متى والتى تعد من أشرس الحروب التى تخوضها الكنيسة الآن وقد تؤدى فعلا إلى شرذمة الأرثوذكسية.
الحقيقة أن الأب متى والبابا شنودة اتبعا سياسة الكنيسة الأولى وهى أن الأساس واحد ولكن الطريقة مختلفة؛ وهو ما حدث بين بطرس وبولس الرسولين عندما اختلفا على طريقة دخول الأمميين أى غير اليهود المسيحية فكان بطرس الرسول صاحب المدرسة التقليدية والذى كان يرى أنهم يجب أن يدخلوا اليهودية أولا ثم المسيحية وكان ينادى بتسهيل المهمة والسماح بأن يدخلوا المسيحية مباشرة ولكن لحسم الامر تم عمل أول مجمع كنسى والذى انتهى بالانحياز لفكر بولس الرسول غير التقليدى.
وفى موضع آخر حينما انقسم الناس وبدأوا فى التحزب فقال بولس الرسول الآية الشهيرة فى رسالته لأهل كورنثوس «لأنه متى قال واحد: أنا لبولس وآخر: أنا لأبلوس أفلستم جسديين، فمن هو بولس؟ ومن هو أبلوس؟ بل خادمان آمنتم بواسطتهما، وكما أعطى الرب لكل واحد.. أنا غرست وأبلوس سقى، لكن الله كان ينمى»
وبذلك تكون الكنيسة عرفت من البداية اختلاف الآراء وتعددها ولكن الثوابت واحدة، وهو ما اتبعه البابا الراحل وصديقه الأب متى المسكين؛ إلا أنه عندما جاء البابا الجديد وأراد أن يعلنها صراحة رفض الكثيرون من محبى البابا شنودة وأتباعه فى الداخل والخارج ووصل الأمر لحد اتهامه بالتهاون فى التعليم وهى تهمة كبيرة فى حق بابا الاسكندرية والذى من أولى مهامة الحفاظ على التعاليم الكنسية ووحدة الايمان.
تجاهل الجميع أن البابا شنودة ظل حتى فترة مرضه الأخيرة يزور دير أبو مقار سنويا وبانتظام وتحديدا فى ثلاثاء البصخة حيث كان يلتقى الرهبان ويصلى معهم ثم تكون له جلسة منفردة مع الأب متى طويلة ثم يرحل ليبدأوا من جديد الرد على بعضهم البعض من خلال إنتاجهم الفكرى.
يتجاهل بعض أساقفة المجمع المقدس أن البابا شنودة جعل من خلاف شخصى قضية عقائدية؛ التزموا فى حياته الصمت وبعد رحيله استغلوها ضد خليفته، الجميع يعلم حقيقة تعاليم الأب متى المسكين والتى تتميز بمخاطبة مراكز الاستقبال الروحية فى الإنسان المسيحى التى تغذى الوعى الروحى.
يراه محبوه أنه عالم، ومعلم، تقى وقديس، ويعلم التقوى والقداسة، وتعريفه للقداسة بمنتهى البساطة أنها الانحياز للمسيح فى كل أمور الحياة.
يتصدى أبونا متى لشرح الكتاب المقدس بحب شديد للكلمة، وحب شديد لمن يقرأ، وكثيرا ما يخاطب القارئ بلقب: أيها القارئ العزيز، أو السعيد، لإحساسه بوصول كلمته للمساحة التى تتخطى الاستيعاب العقلى ، إلى مساحة الوعى الروحى، حيث توجد مستقبلات خاصة تعطلت من عدم الاستعمال، وبتكرار القراءة لكلماته يتم تدريب هذه المستقبلات على الفرز والتمييز، فتستوعب النفس وتختزن ما يثرى الحياة الروحية؛ هكذا يراه محبوه.
أما الجانب الآخر فيراه كما يصور له البعض بأنه من يريد هدم الكنيسة وانه مدخل لكل شر وان كل من ينادى بتعاليمه يجب قطعه عن الكنيسة حتى ولو كان راسها.
الأمر لم يقف لهذا الحد بل وصل إلى أن أى أسقف يأتى دير أبو مقار يكون موصوما بالعار ولا يجب أن يؤخذ به بل يشار إليه بأنه دائما صاحب تعاليم خاطئة؛ على الرغم من أن لفترة كبيرة جدا ظل الأنبا ميخائيل مطران أسيوط الراحل وشيخ المطارنة الأب الروحى لهذا الدير ولم يفتح أحد فمه قط.
ومن يقرأ التاريخ سيكتشف أن دير أبو مقار قدم الكنيسة نحو ٣٦ بطريركا من أهمهم البابا كيرلس الأول والمعروف بعمود الدين والذى دافع عن التعليم الأرثوذكسى فى أشد عصور الكنيسة التى واجهت وعانت من هجمات ضد تعليمها؛ والبابا ميخائيل الثانى و الذى اشتهر أيضا باهتمامه بالتعليم والبابا أثناسيوس الثالث.
ولأهمية هذا الدير ومن فيه كان فى القرون الأولى يتوجب على البطريرك الجديد الذهاب بدير الأنبا مقاريوس (أبو مقار) بعد رسامته مباشرة لنوال البركة قبل البدء فى مهامه الجديدة.
وكان السؤال الآن ألم يكن الوقت للاعتراف بفكر الأب متى والتغلب على مشكلة شخصية للحفاظ على وحدانية الكنيسة.
أحد آباء الدير أبدى استياءه من هذا القضية واصفا بأنها أصبحت شيئا بغيضا، خاصة بعد أن حاول البابا تواضروس الاعتراف ببعض أفكاره والسماح لكتبه بأن تباع داخل الكنائس إلا أن الموجه كانت اعلى والى الآن لم نصل لحل بل أصبح الوضع أسوء من الأول؛ حيث ينظر إلينا كمهرطقين.
ويؤكد أن الأزمة فى أن البابا الراحل كان يقوم بترقية أى راهب مقارى يرفضه الأب متى حتى إنه وصل لدرجة منح الأسقفية لراهب مطرود فقط لأن الأب متى هو من طرده دون النظر إلى أى شيء آخر؛ وكانت النتيجة الحتمية ظاهرة فى مشاكل ايبارشيته التى لا تعد ولا تحصى.
ويقول المفكر القبطى كمال زاخر موسى إن الأب متى المسكين ترك بصمات لا تمحى حتى لمقاوميه، مشيراً إلى أنه عندما تزول التوازنات سيعاد اكتشافه.
وأضاف أنه لا يمكن أن يستقيم البحث وراء فهم موضوعى لما يجرى بيننا اليوم، من مواجهات بين فرقاء، ونحن نقترب من نهاية العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين، بغير أن نقرأ ملابسات البدايات التى شهدتها سنوات 1948 ـ 1954، ما بين رهبنة د. يوسف اسكندر «الأب متى المسكين» ورهبنة أ. نظير جيد «الأنبا شنودة الثالث»، ويمكن أن نجد عنها الكثير، سواء من شهادتهما عنها، أو من شهادات معاصريهم برؤى مختلفة.
وتابع المفكر القبطي: بالعودة لكتاب «حياة الصلاة الأرثوذكسية» ـ باكورة كتب الأب متى المسكين، خاصة طبعته الأولى 1952، والذى قدم له الأستاذ نظير جيد ـ سنجد ما يمكن اعتباره مفتاحاً لتفكيك تناقضات وتقلبات العلاقة بينهما، فنحن أمام «معلم» و«مريد»، يرى الأول فى الثانى تلميذاً نابهاً، حتى أنه يطلعه على مخطوطة كتابه فى مراحله منذ كان فكرة حتى يكتمل بامتداد ثلاث سنوات، ويطلب إليه وهو الشاب العلمانى أن يكتب مقدمته، والثانى يرى فى الأول نموذجاً جدير بالاقتداء، ويطلق التلميذ سطوره فى كتابه الأول «انطلاق الروح» لتصف «أبيه الروحىى وجلساتهما الممتدة معاً.
ويتساءل زاخر: قبل أن نتحدث فى رصد فعل هذا الكتاب فى المشهد القبطى الأرثوذكسى، يقفز أمامنا عدة استفهامات كبيرة، حول الإنقلاب الحاد الذى اعترى العلاقة بين التلميذ واستاذه، والذى تُرجم بامتداد العقود التالية إلى ملاحقة «أبونا الراهب» أينما لاحت بادرة لإشراكه فى تدبير المؤسسة؟!
ـ هل كان الاستقبال المدوى لكتاب حياة الصلاة دور فى هذا؟ أم كان السبب هو تحول الأب متى إلى أيقونة عند الشباب حتى صار «أباً لكثيرين» ويقفز اسمه إلى مقدمة المرشحين للجلوس على الكرسى المرقسى مرتين، بعد نياحة البابا يوساب الثانى (1956)، ونياحة البابا كيرلس السادس (1971)؟
ـ هل كان التحول شخصياً أم جاء معبراً عن تحالفات تجمع بعض من كوادر جماعة مدارس الأحد، التى لم يسترح «أبانا الراهب»، لمنهجهم وفكرهم كما قال فى أوراقه التى كشفها كتاب «السيرة التفصيلية» الذى أصدره دير الأنبا مقار عنه عقب رحيله؟
هل كان استشعاراً مبكراً بأن «أبانا الراهب» يمثل حجر عثرة، لا يمكن تجاوزه، أمام مشروع هذه الجماعة للوصول الى مواقع القيادة وقمة الهرم؟، وهل كانت اتهامات «الهرطقة» التى انطلقت مبكراً، ولم تنقطع، قنابل دخان تمهد الطريق لإقصاء الرجل عن مسارات الجماعة نحو ما خططوا له؟
خاصة وأن كتاب «حياة الصلاة» استحضر أقولاً ورؤى لآباء وعلماء ورموزاً كبيرة من الكنائس «الخلقيدونية»، ولم ينزعج لها ومنها «التلميذ» حين سطر مقدمته لهذا الكتاب، بل اعتبرها حينها أمراً «حسناً جدا» ويؤكد زاخر أنه لا يزعم أنه يمتلك إجابات شافية لهذه التساؤلات، قائلا: يصدر الكتاب ويلتف حوله الشباب الباحث عن مخرج من صراعات الكبار وقتها، ويجدون فيه إضاءات ترد لهم ثقتهم فى كنيستهم، ويخايلهم حلم بعث الكنيسة من جديد.
لم تقف الدوائر التى احدثها كتاب «حياة الصلاة الأرثوذكسية» على بحيرة مياهنا الكنسية الإقليمية، فقد تجاوزتها إلى كنيسة الروم الأرثوذكس. ونتوقف هنا أمام واحدة من التداعيات المهمة فى هذا الإطار.
والسؤال هنا لماذا بعد كل هذا الالتحام الذى أدى إلى دخول الكثيرين للرهبنة والخدمة تحدث هذه الفرقة.. ألم يحن الوقت بعد للاعتراف بتعاليمه التى كانت جزءا من قناعات البابا شنودة نفسه؟■