الشهادة التى لم تسجلها كتب التاريخ عن حديث النسور: صراع فى السماء!

ايمان علي
«يذكر الحقيقة التى قد تغيب لظروف لا تخفى». كتب الروائى الراحل جمال الغيطانى هذا التعليق فى تقديمه كتابًا يسجل العمليات التفصيلية لحرب أكتوبر، وحقيقة الدور الذى لعبته القوات الجوية بقيادة حسنى مبارك. «الحقيقة هى التى ستعيش للأجيال» هكذا كتب اللواء طيار محمد زكى عكاشة الذى قابله الغيطانى فى المحكمة أثناء أزمة «الحرب على حرب الاستنزاف» فى شهادته التى نشرها فى كتابين: «حديث النسور: حرب الاستنزاف - أكتوبر 1973» و«صراع فى السماء: الحروب المصرية - الإسرائيلية». فما هى هذه الحقيقة؟!
بداية، شهادات الغيطانى فى غاية الأهمية والدقة، من ناحية أنه بحكم موقعه وقتها كان شاهدًا حيًا على الحرب. قدم الغيطانى شهاداته كمراسل حربى لجريدة الأخبار عام 1969، لزم الجبهة، مع الفرقة الثامنة من الدفاع الجوى بقيادة اللواء أحمد سلامة غنيم، من بورسعيد شمالاً إلى حلايب وشلاتين جنوبًا.
ومن المعروف أن جبهة القناة، كانت ذروة المواجهة، التى بلغت حدودها من مارس 1970 وحتى أغسطس من نفس العام
يشير الغيطانى فى تقديمه لكتاب اللواء طيار محمد زكى عكاشة، إلى التعتيم المتعمد الذى ضرب على كفاح القوات المسلحة وتضحياتها الجسيمة خلال حربى الاستنزاف وأكتوبر، ما ألحق الضرر بصورتها فى نظر أجيال جديدة لم تعاصر تلك الظروف.
تقدم شهادة عكاشة، رؤية مفصلة خاصة من داخل سلاح الجو المصرى، تسجل ربما من المرات النادرة والقليلة والأولى تفاصيل فريدة حول دور قائد القوات الجوية وقت العبور ومدير الكلية الجوية قبل ذلك، اللواء طيار محمد حسنى مبارك، وتعتبر شهادة اللواء محمد زكى عكاشة أول تدوين لدور اللواء محمد حسنى مبارك فى الحرب، يقول الغيطانى عن كتاب «حديث النسور»: «يحتوى الكتاب على تفاصيل لم أقرأها فى مرجع آخر، ولم أستمع إليها أو عنها خلال أحاديث الرئيس السابق».
الشهادة التى لن تكتبها مناهج التاريخ اليوم:
فى مساء 1 أكتوبر اجتمع الرئيس السادات مع القيادات العسكرية ليستمع إلى التقارير النهائية من القادة والرؤساء. افتتح الفريق أول أحمد إسماعيل الحديث واقترح عرض تقارير القادة والرؤساء ومدى استعداد القوات لتنفيذ المهام.
من ناحيته، أفاد لواء فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية بأنه يصعب على العدو القيام بعملية إحباط برية حاليا، وأن المعركة الرئيسية ستكون شرق المضايق.
رد اللواء محمد الجمسى رئيس هيئة العمليات بأن خطة الخداع الاستراتيجى والتعبوى تسير بالتنسيق مع الإعلام والخارجية، ولم يتم الإعلان عن توقيت الهجوم حتى الآن.
بالنسبة للواء طيار حسنى مبارك قائد القوات الجوية فقال بأنه نسق الضربة المركزة مع سوريا، وأن الضربة الثانية موعدها بعد ساعتين.
ورد الرئيس السادات بأنه يجب استخدام الطيران مركزًا. ونصح بـ«اعملوا حسابكم المعركة طويلة، ويجب الاقتصاد لتحقيق الهدف»، تعليقًا على مدير المدفعية الذى أقر بأربع قصفات كتمهيد النيران.
وكان الفريق سعد الشاذلى رئيس أركان الحرب حاضرًا فى هذا الاجتماع. الذى تفقد بدوره فى زيارة أخيرة للجبهة يوم 5 أكتوبر، أوضاع القوات ووصل مع اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثانى إلى حافة القناة. بعدها أصدر السادات توجيهًا استراتيجيًا إلى الفريق أول إسماعيل بكسر وقف إطلاق النار اعتبارًا من 6 أكتوبر، والعمل على تحرير الأرض المحتلة على مراحل حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة.
وفى اليوم المشهود، أصدر اللواء طيار حسنى مبارك أوامره لبعض القواعد الجوية بإقلاع بعض الطائرات لإجراء تدريب خداعى حتى لا يتسرب إلى العدو أى شك من خلو سمائنا من الطائرات.
بدأت الحرب. كانت الخطة المصرية (بدر) تقوم على اقتحام خمس فرق مشاة مدعومة بلواء مدرع وعدد إضافى من الصواريخ المضادة للدبابات قناة السويس فى خمس نقاط، تقوم بعدها بتدمير خط بارليف وصد الهجوم المضاد. يقول اللواء محمد زكى عكاشة أن الخطة وضعت أولا باسم «المآذن العالية». خطة العبور فقط، بهدف العبور واحتلال 10 - 15 كلم شرق القناة. ثم تحولت بعد تحديثها إلى «جرانيت 1». وبعد إضافة هدف وصول القوات إلى خط المضايق سميت «جرانيت 2»، لكنها بعد الاتفاق مع الجانب السورى سميت «الخطة بدر».
فى الواحدة ظهرًا يوم 6 أكتوبر، انطلقت المقاتلات القاذفة بمشاركة هوكر هنتر عراقى، مع 8 طائرات قاذفة صواريخ يتم إطلاقها من مسافة 150 كيلومترًا من الهدف، اتخذت أماكنها غرب القناة، وبدأ تنفيذ الضربة الجوية التى نجحت فى تدمير ثلاثة من مطارات العدو فى سيناء. أسفرت الضربة الأولى عن نتائج باهرة فوق المتوقع 200 طائرة من 10 قواعد هاجمت ودمرت ثلاث قواعد جوية وثلاثة مراكز قيادة وسيطرة وعشرة مواقع صواريخ هوك فى مقابل خسارة طائرات عشر وطيارين نالوا شرف أول شهداء أكتوبر، بحسب شهادة اللواء عكاشة.
سر نجاح الضربة الجوية المركزة كما نتعرف عليها فى هذه الشهادة، أنها اتبعت أحد مبادئ العلم العسكرى، وهو أن اكتُشفت طائراتنا وهى تعبر بالفعل القناة وليس قبل ذلك.
ولما نجحت الضربة الأولى إلى هذا الحد، وتبين أنه تم إسكات وتدمير معظم الأهداف، فتم إلغاء الضربة الثانية.
الهزيمة أكبر معلم:
التمهيد لنصر أكتوبر كلف مصر أكبر هزيمة وانكسار فى التاريخ. فى «صراع فى السماء» حكاية الحرب والهزيمة وأين يكمن الخطأ!
اهتم لواء طيار محمد زكى عكاشة، كأحد الضباط الذين خاضوا الحرب، بتقديم شهادة تجيب عن الأسئلة الأزلية: كيف اتخذ القرار السياسى والعسكرى لحرب يونيو 1967 وهل كان القرار العسكرى فرديًا أم جماعيًا؟ ومن الذى اشترك فيه؟
الصراع الجوى المصرى - الإسرائيلى فى الفترة من 1948 وحتى 1967 كان بمثابة «مسرح مكشوف» هو صحراء سيناء، شرقها الحدود المصرية الإسرائيلية وغربها قناة السويس بمدنها الثلاث، لكن، ومن ناحية أخرى، كيف لعبت السياسة الدولية دورها فى دعم القوات الجوية الإسرائيلية أثناء الحرب؟ هذه إجابات اللواء عكاشة:
جاء عام 1948 وعلى حدود مصر الشرقية تتأهب دولة للظهور بعد أن نجحت المنظمة الصهيونية فى تجهيز العالم كله لاستقبالها.
حين قامت دولة إسرائيل أظهرت لمصر والعرب كم هو حجم التخلف الذى يعيشون فيه، انكشفت السياسة المصرية الهزيلة أمام التخطيط الصهيونى الدءوب والمحكم.
بن جريون فى اجتماع اتحاد نقابات العمال الصهيونى عام 1937 يقول: «إن العرب لن يفهموا إلا لغة القوة». وبعد حرب 1948 قال: «لقد انتصرنا ليس لقوتنا فقط، ولكن لضعف العرب».
بنهاية القتال فى 7 يناير 1949 كان النقص فى الطائرات والطيارين المصريين واضحًا، أما فى التقرير الختامى الإسرائيلى عن 1948 فظهر أن 700 متطوع من الخارج قد وصلوا للخدمة فى السلاح الجوى الإسرائيلى كان منهم 156 طيارًا، أما الباقى فقد عملوا فى الأطقم الأرضية لتجهيز الطائرات والإصلاح والصيانة.
بينما انتهت الجولة الأولى بين إسرائيل والعرب فى عام 1949 ونشأت إسرائيل كمدفع مصوب إلى مصر» يرسل بالتهديد والترويع والتخويف من حدودها الشرقية إلى جميع شعوب دول المنطقة.
فالسياسة المصرية فى الفترة الحرجة بين انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام دولة إسرائيل كانت تنظر إلى قيام إسرائيل باستخفاف غريب وتسطيح للأحداث جلب الهزيمة. كان تصور الجيش المصرى أنه ذاهب إلى فلسطين لتأديب بعض العصابات الصهيونية.
إيجال آلون الذى كان يتولى قيادة إسرائيل فى الجليل أثناء الحرب فى كتابه «بناء الجيش الإسرائيلى» كتب: «التفوق الجوى هو الذى يفتح الباب أمام حسم أى حرب برية على مسرح الحرب الإسرائيلية العربية».
هل كان الجيش المصرى مستعدًا لهذا القتال؟
يجيب على هذا السؤال اللواء أحمد على المواوى القائد العام للقوات المسلحة المصرية فى فلسطين الذى وردت شهادته فى كتاب هيكل «العروش والجيوش».
يقول المواوى: إنه فى يوم 10 مايو 1948 وكان فى العريش، تلقى رسالة تطلب حضوره بسرعة إلى القاهرة لمقابلة الفريق محمد حيدر وزير الحربية، الذى أبلغه الأخير بالاضطرار لدخول حرب فى فلسطين، وكان رد المواوى أن الوحدات سيئة للغاية وغير مدربة. فطلب منه حضور اجتماع فى رياسة الجيش دعا إليه النقراشى رئيس الوزراء. الذى أصر بدوره على إن «موقعنا بين الدول العربة يحتم دخول الحرب».
تصور النقراشى وفق شهادة المواوى أن المسألة ستسوى سياسيًا بتدخل الأمم المتحدة. وأن الاشتباكات ستكون «مجرد مظاهرة سياسية وليست عملاً حربًيا».
يستنتج لواء طيار محمد زكى عكاشة فى كتابه «صراع فى السماء» عن الحروب المصرية - الإسرائيلية أن الحرب لم تكن بالشيء المهم فى فكر السياسيين المصريين، سد خانة، وخطة تصل إلى قائد القوات فى ميدان المعركة قبل بداية الحرب بيوم واحد!
مع العدوان الثلاثى 1956، نعرف أن مصر لا تقرأ التاريخ. اتخذ القرار السياسى دون مشاورة جادة مع مختصين. انطلق من الرئيس جمال عبدالناصر وحده. يرى عكاشة أنه كان من الممكن أن تؤمم القناة بعد عام أو ستة أشهر، بحيث تكون القوات المسلحة المصرية قد استوعبت الأسلحة السوفيتية وجهزت أفرادها ووحداتها للدخول فى حرب.
كما فى حرب 1948، فى مصر يتخذ القرار السياسى دون مشورة العسكريين، وتكرر ذلك فى 1956.
صراع فى السماء
(6 يونيو - 10 يونيو 1967):
أداء مشرف للطيار المصرى. حاول القيام بأى عمل يمكن أن يفشل الضربة الجوية الإسرائيلية. من إقلاع من فوق بقايا ممرات مدمرة أو الإقلاع فى أثناء الهجوم على المطار وهكذا.
لكن من رأى لواء طيار محمد زكى عكاشة فإن ظهور النصر الإسرائيلى فى حرب 1967 بهذا الحجم وتلك الصورة المروعة لم يكن إلا بأيدينا نحن، بعجزنا وأخطائنا فى التفكير والتقدير، يميل رأى لواء عكاشة إلى تحليل الأمور وفق الحساسية التى نشأت بين الرئيس عبدالناصر والمشير عامر منذ عام 1962، جعلت عمليات القوات المسلحة تنفصل عن الدولة، تحت قيادة المشير الشخصية الذى أخذ يعمل بلا أجهزة وإنما بالأسلوب الفردى، والاعتماد على مجموعة ضباط هم «مكتب المشير» حلقة الوصل بينه وبين القوات المسلحة.
هل كانت الهزيمة حتمية؟
- الهزيمة وقعت قبل 1967 بسنوات. كان التقصير والإهمال يسود الدولة كلها. قطبان يتصارعان: الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر. أوامرهما ورغباتهما غير قابلة للنقاش. كان اللواء طيار محمد زكى عكاشة طيار مدرس بالكلية الجوية عندما تم توزيعه مع 28 طيارًا آخرين على أسراب المقاتلات والقاذفات مع بداية فترة الطوارئ (استمرت عشرين يومًا). يقول لواء عكاشة أنه تنقل بين خمس مطارات أحدها لم يمكث فيه إلا ليلة واحدة ولم يكن يعرف ما المهمة المكلف بها السرب. ناهيك عن أن طائرة القتال - ميج 17 - كان الطيارون بعيدين عن استخدامها والتدريب عليها لمدة ثلاث سنوات! بينما فى إسرائيل كانت القوات الجوية على أهبة تامة وأظهروا تدريبًا عاليًا على العمليات من بعد 1956، أى من 11 سنة.
للإجابة عن السؤال أيضًا، لابد من تحليل وضع الدور العربى فى الحرب. الفرقة والانقسام، التناحر والتآمر، التواطؤ، والشماتة أحيانًا.
فى 1973 استعدنا الروح بعد ست سنوات، وكانت إسرائيل والعالم كله يجمع على أنه لن يتحقق إلا بعد عشرين عامًا.