الحلقة التاسعة عشرة: اخترت عادل إمام بدل سعيد صالح لأن ملامحه طفولية

روزاليوسف الأسبوعية
لم أقتنع بسعيد صالح عندما وقع بصرى عليه للمرة الأولى فقد رشحوه ليلعب شخصية دسوقى أفندى فى مسرحية «أنا وهو وهى» وجدت علامات الدهشة مرسومة «ربانى» على وجهه، فهو لا يتصنع شيئا ولا يقصد شيئا، هو خلقة ربنا كده.. فى الحقيقة أنا ضحكت من داخلى عندما رأيت سعيد صالح فهو يدعوك للضحك إذا تكلم وإذا تحرك وإذا التزم الصمت، هو قماشة كوميدية لم أعرف لها وجودا فى كل الكوميديانات الذين أنجبتهم مصر طوال تاريخها.
وسعيد صالح يستطيع أن يؤدى أى دور وكل دور ويجيد التلون وينشد التنوع فى كل ما يقدمه من أعمال، وربما يسألنى أحدهم: ولماذا لم أعهد بالدور إلى سعيد صالح فى هذا العمل المهم والخطير؟ وهذا الدور الذى أصبح إحدى علامات عادل إمام وأول أدواره على الطريق الذى قطعه من الأسفل إلى الأعلي.. الحق أقول إن شكل سعيد صالح يوحى بأنه تلميذ فى المرحلة الإعدادية أو الثانوية على أقصى تقدير وإذا وقع بصر المتفرج عليه فإنه لن يصدق الأمر، وهكذا ساهم مظهر سعيد صالح الشبيه بالأطفال لكى يفرش الطريق بالورود لعادل إمام الذى لبس الشخصية وأداها بمعلمة واقتدار وبما لا يسمح لغيره أن يضيف إليها أو يرتفع إلى مقامها، وهكذا رسخ فى ذهنى أن شكل سعيد صالح لن يكون مقنعا فى أى دور اللهم إلا دور التلميذ أو الابن، ولذلك عندما قدمت مسرحية «البيجامة الحمرا» وجدت سعيد صالح بيتنطط قدامى على الأوراق فى دور ابن نبيلة السيد وهو واحد من أروع ما قدم سعيد صالح من أدوار، فى هذه الأيام تعاقدت مع الشاب الجديد سعيد صالح بمبلغ بسيط ثم رفعته إلى 80 جنيها، وعلى الرغم من أن سعيد صالح كان أكثر ممثل عمل معى فى فرقة الفنانين المتحدين، فإنه أيضا أكثر ممثل عمل خارج المتحدين.. فعادل إمام لم يفعل هذا الأمر سوى مرتين فى حياته، الأولى كانت عندما وقع عليه اختيار العبقرى حسين كمال فى «ثورة قرية» ومنحه دور بائع العسلية يومها اعترض بطريقته الساخرة المحببة للنفس، وهو يقول: «يا أستاذ حسين أنا بامثل شكسبير وباعمل «عطيل» فنظر إليه حسين كمال وقال شكسبير إيه وعطيل مين؟ أنت ممثل كوميدى ما حصلش، وهكذا استطاع عادل أن يقوم بعملية تفسيح للدور بعد أن كان يقول جملة واحدة فقط «معانا العسلية» حولها عادل بذكائه الخارق إلى دور مرسوم بمعلمة.. أما المرة الثانية التى عمل فيها عادل إمام خارج الفرقة وكانت المرة الأخيرة فى الستينيات فى فرقة محمود السعدني.. فرقة «ابن البلد» المسرحية التى أنشأها السعدني، وكان لها مجلس إدارة من أولاد البلد الحقيقيين من معلمى الجيزة الكبار المعلم سرور أبوهاشم والمعلم سيد مخيمر والمعلم إبراهيم نافع، وقدمت هذه الفرقة 3 مسرحيات هى «البلوبيف» و«النصابين» و«بين النهدين» اشترك عادل إمام فى «النصابين» وقام بأداء دور «كبارة»، ولكنه اعتذر عن الدور بعد ذلك بعدة أسابيع ليحل محله فاروق نجيب، ومنذ ذلك الوقت لم يغادر عادل إمام فرقة الفنانين المتحدين، على الرغم من أن شقيقه الأصغر «عصام» كون فرقة مسرحية وقدم العديد من الأعمال وحقق نجاحا ملحوظا.. واستمعت بأذنى إلى وشايات من البعض تؤكد أن عصام يقول بعملية تسخين فى ملعب الإنتاج المسرحى لكى يمهد الطريق لعمل مسرحى ضخم يجذب شقيقه إلى فرقته.. يومها أكدت لأصحاب هذه الاستنتاجات الفالصو أن عادل إمام أذكى من هذا الأمر بكثير، فهو يعلم أن العلامة التجارية للمتحدين هى واجهة لها سمعتها وتاريخها وقامتها، وأن ارتباطه بهذه المؤسسة لا انفصال فيه، كلاهما يرتبط بالآخر ارتباطا عضويا ولا يمكن لذكاء عادل أن يسمح له بأن يمسح تاريخه الفنى بأكمله بنفسه ويبدأ من جديد حتى لو كانت الفرقة الجديدة ملكا لشقيقه.. وبالفعل صدق ظنى فعادل إمام أنهى حياته المسرحية وهو يطل إلى جمهوره من خلال الفنانين المتحدين، ولكن لو حسبنا عدد المسرحيات التى قام سعيد صالح ببطولتها سوف نعدد الكثير منها، بل إنه من شدة العشق والوله بفن المسرح تحديدا قام بإنشاء فرقة مسرحية مع صديقه وزميل عمره حسام العزيزي، وقدم عددا من المسرحيات وحقق نجاحا شخصيا ولم يحقق ربحا ماديا، أما النجاح الذى أسعد سعيد فهو احتفال الناس به والصحافة والنقاد، فقد حدث أن خرج سعيد صالح ذات يوم عن النص، وتم عمل محضر له وأحيل إلى المحاكمة وحكموا عليه بالسجن وأمضى فترة العقوبة فى سجن الحضرة بالإسكندرية، وكان عادل إمام وصلاح السعدنى ويونس شلبى وأنا نسافر فى كل يوم جمعة من أجل لقاء سعيد صالح وجدته داخل مستشفى السجن، وقد كون فريقا للتمثيل وفوق ذلك كان سعيد قد طلب كل أعمال كبار شعراء العامية وأمضى أيامه هناك يشيع البهجة والسعادة ويلقى بالقصص والنكات التى حولت هذا المكان البشع إلى واحة للفن والفكر والسعادة، لذلك كان اليوم الذى خرج فيه سعيد صالح من السجن يوما حزينا حتى له هو شخصيا، وبعد السجن وفى «كعبلون» غنى سعيد صالح «ممنوع من الكلام» لشاعر العامية العظيم أحمد فؤاد نجم، وكان جمهور سعيد من الشباب الذى كان شأنه شأن كل أجيال الشباب تنشد أحلاما وتتمنى تغيير وتحاول ولو بالتمنى أن تصنع مستقبلا أفضل وتجاوب الشباب مع سعيد صالح وانكسر الحاجز الرابع الوهمى فى المسرح وأصبح الغناء تقسيمة ما بين سعيد على خشبة المسرح والجمهور الذى لعب دور الكورال وكنت أذهب إلى مسرح سعيد صالح لأستمع إليه وإلى جمهوره والكل يغني:
ممنوع من السفر.. ممنوع الغنا
ممنوع من الكلام.. ممنوع من الاشتياق
ممنوع من الابتسام.. ممنوع من الاستياء
وكل يوم فى حبك.. تزيد الممنوعات
وكل يوم باحبك.. أكتر من اللى فات
كان جمهور النظارة بأكمله ينهض وهو يطلق عاصفة من الصفافير والتصفيق لهذا الفنان الذى كانت له فى قلوب كل أهل مصر وكل العالم العربى مكانة عظمى فى القلوب.. إنه اليوم يضع يديه على نبض الناس ويتبنى كلمات شاعر شعبى خطير الأثر فى الحركة الوطنية المصرية، وهو مصرى حتى النخاع عاش فقيرا وانتمى إلى الفقراء وسكن فى أحياء الفقراء وأكل من طعام الفقراء، ولبس ملابسهم، وكان أجدع من يمثلهم، وينطق بلسانهم، وعندما قدم سعيد صالح هذا الشعر غناءً ارتفع سعيد بفنه ما يقدمه للناس من فنون لدرجة أن الكاتب الساخر الكبير محمود السعدنى وهو الذى احتضن عادل إمام وسعيد صالح وصلاح السعدنى فى بداياتهم الفنية كتب يقول: أتمنى من الله بعد أن شاهدت التغيير الرهيب الذى جرى لسعيد صالح بعد تجربة السجن أن نسجن سمير غانم وسيد زيان وحسن مصطفى ويونس شلبي!
وكان السعدنى مؤمنا بشدة بموهبة سعيد صالح ويرى أنه أعظم كوميديان أنجبته مصر وقال عنه إنه صاحب الغفلة الحلوة، المفكوك صماويل العقل وزراير البنطلون الذى يملك موهبة كما البحر لا حد لها ولا أعماق، ولا يملك من نوع العقل شيئا يصلح لإدارة هذه الموهبة العظيمة.
والحق أقول إن سعيد صالح فنان لا تستطيع أن تحدد رد فعله ولا تحسب أو تستنتج ما سوف يفعله، فهو فنان تلقائى طبيعي.. ذات مرة نظر إلى نفسه فى المرآة واكتشف أن هناك تشابها بينه وبين خالد الذكر سيد درويش.. فمضى مسرعا إلى شارع محمد على واشترى أغلى عود موجود وحاول أن يلحن لنفسه ويغني، وبالفعل سجل التجربة على شرايط.. فكان كل من يزوره يستمع مجبرا إلى أغانى سعيد.. كان هذا فى زمان بعيد ولكن سعيد اكتشف أن الشبه فى الشكل لا يتطابق فى بقية الأشياء وهو يسير بسيارته ومعه بعض الأصدقاء.. توقف فجأة وهبط من السيارة وألقى بالعود فى النيل من فوق كوبرى قصر النيل، ولكن تجربة السجن كانت قد أنضجت سعيد صالح وزادته خبرة بالحياة.. وبالعودة إلى العمل الأول الذى جمع النجمين الكبيرين كنت أنا شخصيا أشعر وأتابع أيضا شعور الجمهور.. وكان يرجح كفة سعيد صالح وبشكل واضح من خلال التحية التى كان الجمهور يحرص على أن يظهر لسعيد صالح أنه صاحب الأداء الأكثر تميزا والأعظم أثرا، فقد كان مبهجا بدرجة مذهلة، فقد خلق سعيد مناطق للضحك لم تكن على بال أى مخلوق ويكفى أنه كوميديان وممثل عبقرى وله اسم قام بعملية فرش الإيفيهات لطالب لايزال يدرس فى أكاديمية الفنون وهو يونس شلبى الذى أدهش سعيد صالح بموهبته العبقرية، ولم يكن الأمر غريبا على سعيد صالح الذى أشار على مواهب بعينها واحتضنها وتحمس لها.. أحمد زكى ويونس شلبى وآخرين كان آخرهم هو الفنان الكبير الشاب محمد رمضان.
وما أجمل هذا الفتى - محمد رمضان - الذى يعترف فى كل مكان وفى كل مناسبة بأن الفضل فيما وصل إليه يعود إلى هذا الفنان الذى لو أحسن الاختيار ولو أدار موهبته ببعض العقل لكان لدينا فنان عالمى ليس له فى عالم الضحك نظير.