أمريكا والمجنون
عبد الله كمال
عبدالله كمال 20 مارس 2010 3:00 م
من أهم عوامل حيوية المجتمع الأمريكي أنه لايوجد أي قيد علي عملية التفكير.. العقول مطلقة السراح بلا قيد.. من حقها أن تذهب في أي اتجاه.. لكن نضجها الأصيل يمنعها «غالبا» من أن تشطح.. لاسيما حين يتعلق الأمر بالأمن القومي والمصالح الأمريكية المعقدة والمتشابكة والممتدة.
ويتمتع صانع القرار الأمريكي بهذه الميزة البناءة والجبارة.. إذ حتي مع وجود جماعات مصالح لها أهداف معلنة وأجندات صريحة.. فإنه يجد أن لديه عشرات من آليات التفكير التي تعاونه وتقترح عليه.. ولو كان بعضها ينتقده.. تتيح أمامه الخيارات.. وتفتح أمامه الآفاق.. وتقترح عليه الحلول المدعومة بالرؤي العلمية السليمة.. بينما صانع القرار العربي يجد في مجتمعه من يعرقله.. ويهدمه.. وينتقده.. ويهاجمه.. دون أن يطرح عليه أي اقتراح بديل.. بل من يدعو الله علنا أن يفشل.
في إطار هذه العملية الحيوية المعتادة.. التي يقوم بها الأمريكيون كما لو أنهم يتنفسون.. بطريقة منظمة وموثقة.. فإن من الطبيعي في الولايات المتحدة أن يحدث دوريا وكل فترة ما يسمي بـ (مراجعة السياسة).. خصوصا في أوقات الأزمات.. أي أن يتم تقييم التوجهات وإعادة النظر فيها علنا وسرا.. بحيث إذا كانت هناك عثرات.. يتم تجاوزها.. أو تذليلها.. ومعاونة صانع القرار علي معرفة جوانب قصورها.. أو الاستفادة من جوانب إيجابية فيها.
لكن بخلاف المميزات، فإن عيب الولايات المتحدة الخطير هو أن العقل حين يجد نفسه أمام تحديات صعبة فإنه يشطح.. وعندما يواجه مشكلات خارجية معقدة يبدأ في التواؤم مع الواقع بطريقة ترسخه.. بدلا من أن تغيره.. لتحقيق المصالح الأمريكية ولو كان ذلك علي حساب الآخرين.. وتتجسد هذه الحالة غالبا في المسائل التي تتعلق بثقافات أخري.. لايدري عنها الأمريكيون شيئا.. أو يدرون ولايفهمون.. فيصلون إلي استنتاجات خاطئة.. تكون نتائجها كارثية.. ولاتتضح لهم إلا بعد أن تقع المصيبة.
- منطق «وما المانع»؟
علي سبيل المثال فإن واشنطن تواجه عملية عصف فكري بخصوص الملف الإيراني منذ أشهر.. وقد تصاعدت في الأيام الأخيرة.. مؤداها أن هناك من يعتقد أنه يمكن بناء سياسة (احتواء لإيران النووية).. أي إمكانية القبول بوجود قنبلة نوويه لدي إيران.. وبدء عملية تفكير في هذا السياق عنوانها: (وما المانع).. وقد هالني أن أقرأ قبل أيام أن «زبيجنو بريجنيسكي» مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر قد أيد فكرة (الاحتواء) بناء علي أنه لايوجد في تاريخ إيران مايشير إلي إمكانية (الانتحار).. وأن إيران تريد فقط مزيدا من النفوذ.. ولا يمكنها أن تستخدم القنبلة في حرب ما.. مما يعني إمكانية القبول بالاحتمال.. وبدء الاتجاه إلي بناء (عملية احتواء إيران النووية). هذا المعني الساذج، للأسف، يشير إلي القصور الجوهري في فهم الثقافات الأخري، لأن تاريخ إيران ليس كله سياقا واحدا، ولأنه لايستوعب حقيقة أن الملالي الحاكمين للدولة الفارسية الآن يؤمنون بالمذهب الشيعي الاثني عشري.. وبولاية الفقيه.. هذا الحكم قبل أن يخوض حربا ضد العراق لمدة ثماني سنوات.. فهل لم يكن هذا انتحارا.. وهل الصبية والمراهقون الذين كانوا يلقون حتفهم في ميدان القتال وقد علقت في صدورهم مفاتيح قيل أنها سوف تفتح لهم (أبواب الجنة).. هل هؤلاء كانوا يتنزهون أم أنهم ينتحرون بأمر الفقيه. والأخطر أليست إيران داعمة أساسية لتنظيمات عنف عربية تؤمن وتنفذ عمليات الموت من أجل المبدأ الذي قد يكون مغلوطا.. وأليست هي التي دفعت حماس إلي الانتحار في حرب غزة.. وحزب الله إلي الانتحار في حرب يوليو 2006؟.. وأليس قمع المعارضة الإيرانية بالرصاص في الشوارع نوعا من الانتحار.. وأليس من الممكن أن يأتي مرشد للثورة - بما في ذلك المرشد الحالي - يعطي أمرا للأمة الفارسية الشيعية بالانتحار؟
إن زبيجنو بريجنيسكي، وهو مفكر استراتيجي كبير، وله أهمية دولية، لايمكنه للأسف أن يستوعب معني ودلالات عمليات (التطبير) - جلد الذات وتعذيبها بالجنازير وضرب الصدور والرؤوس حتي تدمي - في الاحتفال بذكري عاشوراء.. وأنها تعني أن الشيعة المؤمنين بالاثني عشرية وولاية الفقيه يمكنهم أن ينتحروا إذا ما تلقوا الأمر بذلك.. أو إذا ما ظن موجه لهم أن عملية إطلاق القنبلة النووية قد تؤدي إلي عودة (المهدي المنتظر) ذلك الذي يضع له أحمدي نجاد مقعدا خاويا في مجلس الوزراء.. متوقعا وصوله ذات يوم قريب.
القصور الحقيقي
هنا يكمن القصور في التفكير الأمريكي أيا ماكان عمقه، أنه ينظر إلي الأمر بمقاييس أمريكية، ويتجاهل، عمدا أو بعدم فهم، الجوانب الثقافية المعقدة في عقائد الآخرين.. وبينما ينشغل المحللون في الولايات المتحدة بأن نجاد يعلن أنه يريد تدمير إسرائيل.. وينكر المحرقة اليهودية.. فإنهم لاينظرون إلي ما يقوله بخصوص المهدي المنتظر.. ولايمكنهم تفسير أن المرشد حين يخطب يعتلي منصة يكون فيها كل من يسمعونه في مرتبة أدني من حيث المسافة.. لأنه أرقي بحسب ما يؤمنون.. وأن المزيج التي تصنعه الشيفونية الفارسية مع العنصرية الشيعية يؤدي إلي احتمالات كوارث رهيبة في الإقليم وما حوله.
وفوق كل هذا فإن العقل الأمريكي لايمكنه أن يفهم المدلولات شديدة الخطورة لمبدأ (التقية) في عقيدة الشيعة.. إذ بموجبه يكون من حق الشيعي أن يخفي ما يضمر.. وأن يقول ما ليس في نيته.. وأنه حين يفعل ذلك لا يكون كاذبا وفق ما يؤمن.. وقد قام البرنامج النووي الإيراني علي أكبر عملية ممارسة لـ (التقية)؟ في التاريخ الشيعي.
إن الاستراتيجية تقوم علميا علي حساب عوامل واقعية.. جغرافية وسياسية وعسكرية واقتصادية وتاريخية وثقافية واجتماعية معقدة للغاية.. ولكن مشكلة الأمريكيين هي أنهم لايمكنهم سبر أغوار المجتمعات من النواحي الثلاث الأخيرة (التاريخية والثقافية والاجتماعية).. وما العراق وما جري فيه عنا ببعيد.
من هنا فإن المناقشات الجارية لتصور يدعو إلي قبول (إيران بعد القنبلة) تنبني دائما علي استقراءات تتميز بالقصور في ثلاثة أسس تقوم عليها:
المقارنة بين حالة إيران التي تتجه إلي التبلور الآن وحالتي الصين وروسيا مع الولايات المتحدة في عصر الحرب الباردة.. إذ تتجاهل هذه المقارنة أن نظام الرئيس الصيني (ماو) - الموصوف في الكتابات الأمريكية بالمجنون، ونظام الرئيس السوفيتي ستالين - الموصوف في نفس الكتابات بالمجرم، لم يكونا نظامين دينيين.. لديهما عقيدة لديها هذا القدر المهول من الدوافع التي يمكن أن تذهب بفارس إلي أبعد نطاق لا يمكن أن تتخيله عمليات التفكير الأمريكية.. بخصوص تصور تصرفات المجنون الجديد - بحسب وصف الكتابات الأمريكية الآن لأحمدي نجاد.
إن عملية تفكير من هذا النوع الذي يجري الآن، قد جرت مع الصين، وانتهت إلي القبول التاريخي بوجود الصين النووية، وأنه بعد سنوات طويلة أصبح علي الولايات المتحدة أن ترضخ للصين.. ماليا.. من حيث إن الولايات المتحدة مدينة للأموال الصينية بتريليون دولار الآن.. وأن الرئيس أوباما يستجدي من بكين التنشيط التجاري.. ومن حيث إنها لا تستطيع أن تفرض قرارا دوليا بخصوص عقوبات إيران بسبب الصين.. مما يعني أن الولايات المتحدة تواجه الآن بعض نتائج ما فعلت إبان عملية الانفتاح علي الصين في عهد دبلوماسية البنج بونج التي قام بها هنري كيسنجر.
إن أهم أسس الحسابات الأمريكية، وهي هنا غير رسمية، ولكن لايوجد بون كبير ما بين ما هو رسمي وغير رسمي في الولايات المتحده، إنها تقوم علي عدم الاعتبار المتكامل لردود الأفعال الإقليمية علي مثل هذا الاحتمال (القبول بإيران نووية)، إلي درجة الاستخفاف - للأسف - تجاه كل من مصر والسعودية وتركيا.. وافتراض أن هذا الاحتمال سوف يؤدي فحسب إلي بدء سباق نووي.. بالطبع تري الحسابات أن نتائجه لن تظهر في مدي زمني قريب.. وهذا معني يعبر عن قصور حقيقي.. ويتجاهل تأثيرات وجود القنبلة لدي إيران علي التوازنات الإقليمية مباشرة.. وليس حين يبلغ السباق النووي مرحلته الأخيرة.. وتلك نقطة سوف نعود إليها حتما.
إن منطلق التفكير الأمريكي لايقوم في هذه المرة علي أساس أن العقل يتعامل بحرية مع الموقف.. ويجوب آفاق الخيال والتصور.. وإنما لأن هناك عجزا حقيقيا في التعامل مع المسألة المعقدة.. إذ أن الخيارات الأمريكية كلها تصل إلي طرق مسدودة.. سواء كان خيار التفاوض مع إيران - أو خيار فرض العقوبات - أو الخيار العسكري.. والتفكير تحت ضغط العجز لابد أنه يصل إلي القبول بما لا يمكن القبول به.. والتواؤم مع احتمالات لم يكن من الممكن الموافقة عليها.
سلبيات هجوم إسرائيل
عموما، أبرز المواقف التي بدأت بوضوح التسويق لهذا المعني، واقتراح بناء استراتيجية تقوم علي الرضوخ - لا أقول القبول - لإيران النووية - كان في مقال الكاتب المعروف فريد زكريا رئيس تحرير مجله نيوزويك - الذي كتب في 13 أكتوبر الماضي: بعد حصول إيران علي القنبلة.. لن تحل نهاية العالم، وقبل أيام صدرت مجلة (فورين أفيرز) - وهي دورية رصينة لاتقارن بالمستوي الضعيف لمجلة (فورين بوليسي) - وقد اعتمر غلافها بعناوين مجموعة كبيرة من التحليلات التي تقيم هذه الرؤية وتنظر في احتمال أن تنال إيران القنبلة.. وكيف سيكون الوضع عليه.. وبينهما قرأت التحليل المتعمق - الذي لا أتفق معه - للمحلل جورج فريدمان في معهد ستراتفورد بعنوان (التفكير فيما لا يمكن التفكير فيه أو ما لا يمكن تصوره).. فضلا عن مجموعة أخري من المقالات والأبحاث والتعليقات.
لقد ظهرت هذه الرؤي عمليا، بعد أن كانت أشهر العام الماضي، قد شهدت تكثيفا مهولا في الدراسات والتحليلات التي مضت في اتجاهين.. الأول دراسة احتمالية نجاح أو فشل الحوار الذي كانت تجريه دول مجلس الأمن بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة ألمانيا مع إيران.. والعرض الذي قدم لطهران بشأن تخصيب اليورانيوم خارج إيران تحت إشراف دولي.. وقد سبق الواقع هذه التحليلات حين لم تستجب إيران للعرض.. ومضت قدما في برنامجها.. بل وأعلن أحمدي نجاد عن رفع معدلات التخصيب إلي 20%.. والثاني هو دراسة احتمالية نجاح أو فشل ضربة عسكرية تسددها إسرائيل لمفاعلات إيران النووية. وبالطبع فإن أغلب التحليلات والسيناريوهات التي قيمت احتمالية أن تقوم إسرائيل بضربة عسكرية لإيران تعثرت في مجموعة هائلة من التوقعات السلبية بالمقياس الأمريكي.. وقد انبنت النقاط التي تري خطورة السيناريو علي مجموعة من النقاط: ؟ الصعوبة اللوجيستية في تنفيذ العملية العسكرية التي سوف تكون معقدة وليست مجرد ضربة خاطفة وإنما تستمر أياما طويلة ويفترض فيها أن تتم بالتعاون أو الصمت من قبل مجموعة من الدول في الإقليم لأسباب تقنية وجغرافية.
احتمالات ردود الأفعال الإيرانية سواء علي مستوي الإقليم أو في اتجاه إسرائيل (نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله قال قبل يومين أن ضرب إيران سوف يفجر المنطقة).
ألا يمكن للضربة العسكرية الإسرائيلية أن تؤدي إلي إجهاض تام للبرنامج النووي الإيراني في ضوء التحصينات المحيطة به أو ضعف المعلومات الاستخبارية.. أو أن يؤدي إلي تأثير يمكن إيران مجددا من استعادة برنامجها وبلوغ القنبلة في مدي متوسط بعد الضربة.
أن يؤدي إلي حشد قوي الشعب الإيراني وبما في ذلك المعارضة القوية المتأججة في الشارع مع النظام الحالي الذي يكون وقتها مدافعا عن السيادة الوطنية بغض النظر عن الاختلاف معه .
المشكلة الاستراتيجية العنيفة للقوات الأمريكية في العراق.. إذ سيكونون في مرمي التهديد الإيراني.. وهم في العقلية الأمريكية ينظر إليهم في إطار هذا الملف ليس فقط كقوة احتلال تواجه معاناة كبيرة في البلد الذي تحتله وإنما رهائن لابد من العمل علي إعادتهم إلي موطنهم بدلا من تركهم ضحية لعملية إيرانية واسعة في العراق.
الطريق المسدود
ومع خفوت هذا الاحتمال العسكري، علي الأقل الآن، وحتي نهاية 2010 علي الأقل، فإن عملية التفكير العلنية توازت مع تحركات مختلفة.. تحت ضغط الوقت.. أو كما قال ريتشارد هاس الدبلوماسي الأمريكي المخضرم ورئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.. فإن الملف الإيراني يتفاعل علي دقات ثلاث ساعات: ساعة التخصيب وأجهزه الطرد المركزي في المفاعلات الإيرانية - وساعة المفاوضات الجارية مع إيران - وساعة التفاعلات الصاخبة في الشارع الإيراني.. وقد خلص هاس إلي أن الأمل بالنسبة للغرب يكمن في التأثير الذي يمكن أن تحدثه تفاعلات الشارع وقوي المعارضة.
مرة أخري، يعتقد الغرب أنه يمكن لعملية تغيير - صعبة الاحتمال - أن تؤدي إلي بلورة نظام مختلف.. لا يذهب بعيدا في الاتجاه النووي.. وهو كلام غير منطقي في ضوء أن البرنامج النووي الإيراني الحالي بدأ في عصر الشاه.. ولم تبتدعه الثورة الإسلامية الشيعية.. وأن افتراض انتصار المعارضة - وفق العقلية الأمريكية - يدفعهم إلي تخيل أن هذا النظام الجديد لن يمثل خطرا بنيويا علي المنطقة بقدر ما هو النظام الحالي.. الصحيح بالطبع أنه سوف يختلف.. لكن ما لا يفهمه الأمريكيون أن المعارضة الحالية ليست كلها غربية الهوي خصوصا أن بعض قيادتها من داخل النظام الديني الإيراني.. وأن المشكلة الأعمق في علاقات إيران مع محيطها الإقليمي تكمن في فارسيتها بخلاف مذهبها الديني.
لكن فريد زكريا، المشار إليه، بني نظرية قبول إيران النووية علي أساس أنه يمكن للولايات المتحدة أن تستوعب واقعا إيرانيا مختلفا وأن تتيح الأفق من أجل عملية انفتاح تتم فيه بحيث لا يكون الهدف هو تغيير النظام وإنما تطويره ومساعدته علي أن يكون متفاعلا مع الغرب.. وإدخاله في اللعبة الدولية ولو علي حساب مصالح بعض الدول في الإقليم.
هذه التصورات الضعيفة في تفكيرها الاستراتيجي اندفعت تتزايد مع وصول طريق العقوبات إلي مسارات مسدودة.. وبعد أن كان هناك من قرر أنه يمكن بلوغ قرار من مجلس الأمن في فبراير الماضي.. فإن الموعد امتد إلي مايو المقبل.. ورغم ذلك فإنه لايوجد تفاؤل بشأن قرار العقوبات هذا.. ولايتوقع له أن يصدر.. وهناك معوقات عديدة تعترض طريق صدوره أو احتمالية تأثيره.. منها ما يلي:
تبين بمضي الوقت أنه لايمكن الوثوق كلية في موقف روسيا من العقوبات.. لاسيما وأن الأمر يتعلق بترتيب استراتيجي في منطقة (أوراسيا) وآسيا الوسطي.. أي في الحزام الاستراتيجي لمصالح روسيا.
من المؤكد أن الولايات المتحدة تواجه مشكلات عميقة جدا مع الصين. وإذا كان قرار العقوبات قد يتضمن منع تصدير البنزين إلي إيران (إيران تستورد 40% من احتياجاتها).. فإن الصين تبدو مستعدة لعملية تصدير خلفية مع إيران.. فضلا عن اعتمادها علي استيراد 11% من احتياجاتها من البترول الإيراني. والأهم أن لديها مصالح تجارية واسعة.. وقد لوحظ مؤخرا أن هناك عديداً من اللافتات الصينية التجارية الجديدة قد نشأت استعدادا لهذا الاحتمال وحتي لا تخضع المؤسسات الصينية المعروفة دوليا لأي عقوبات.
الأهم في هذا السياق أن الولايات المتحدة قد أخطأت علي المستوي الاستراتيجي في تعاملها مع الصين.. خصوصا حين قابل أوباما الزعيم التبتي الدالاي لاما.. وحين وافقت واشنطن علي تصدير الأسلحة لتايوان.
لايمكن توقع تأثير قريب وعاجل ومؤثر وفعال لأي نظام عقوبات علي العملية النووية الإيرانية.. في ضوء أن القرار يريد ألا يضرب حصارا مؤثرا في مصالح الشعب الإيراني وإنما في مصالح أركان النظام خصوصا الحرس الثوري ومداخيله المالية.
في خلفية كل قرارات العقوبات التي صدرت ضد عديد من الدول لا يذكر علي الإطلاق أن هناك قرار عقوبات قد أحدث تأثيرا جوهريا أدي إلي تحول نوعي في مسارات وسياسات الدول التي تتعرض للعقوبات.
- هجوم أمريكي
عموما، نلحظ أنه بينما تجري عجلة التفكير العلنية في الاتجاه إلي دراسة استيعاب إيران بعد حصولها علي القنبلة.. فإن التصرفات الأمريكية تسير في اتجاه مختلف إقليميا.. وفي هذا لابد من التوقف عند مجموعة من الملاحظات الجوهرية:
- خلال الثلاثة أشهر الماضية، زار المنطقة (علنا) عدد كبير جدا من المسئولين الأمريكيين علي مستوي عال جدا.. ومنهم: وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون - وزير الدفاع جيتس - مستشار الأمن القومي جنرال جيمس جونز - نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن.. فضلا بالطبع عن عدد كبير من مساعدي الوزراء والمسئولين الأمنيين.. وهذه التحركات علي ذلك المستوي ونطاقات تحركها الجغرافية لايمكن أن تكون إلا في إطار ترتيب عميق ومتعدد الأبعاد.
- تنطوي التكتيكات الأمريكية علي استهداف تسكين نوعي، أو تحييد ملفين علي الأقل، قبل المضي قدما في اتجاه أي تصعيد ضد إيران.. أيا ما كان نوع التصعيد.. الملف الأول هو العراق.. والثاني هو أفغانستان. ليس من المتوقع أن تبقي هاتان الجبهتان مفتوحتين في ظل احتمالية فتح جبهة ثالثة.
- من بين الاستهدافات توسيع نطاقات التعاون العسكري مع أطراف إقليمية مختلفة.. خصوصا في إسرائيل والخليج.. ومد المظلات الدفاعية.. وعقد صفقات السلاح.. وبناء الأحلاف السياسية أو ترسيخ القائم منها.
- تحركات عسكرية متنوعة لا يمكن لأي مبصر أن يغفلها.. في النطاقات البحرية للإقليم.
- عملية تسكين نوعية لإسرائيل وجموحها.. من قبل الولايات المتحدة.. استوعبت هي أنها تجري.. وراحت تمضي في مقابل إعلانها لجم جموحها في اتجاه ابتزاز استراتيجي غير مسبوق بقصد الحصول علي أكبر قدر من المكاسب.. عسكريا وسياسيا.. وقد أخذتها الشهوة والنهم حتي ارتكبت خطيئة كبيرة حين تسببت في إحراج مهول لنائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن بإعلانها عن بناء 1600 مستوطنة، بينما هو في الطريق لإسرائيل.. وهو ما فجر الأزمة الحالية والعميقة بين واشنطن وتل أبيب.
إذن، هل تتناقض هذه التحركات الأمريكية الرسمية مع التفكير الأمريكي غير الرسمي في مستقبل ما بعد وصول إيران إلي القنبلة النووية؟ وهل يكون هذا الحديث المحاط بأساليب علمية مجرد عملية خداع كبري للتغطية علي خطط يتم ترتيبها؟ أم أن الولايات المتحدة يمكن أن تلجأ حقا إلي خيار استيعاب إيران.. والبدء في المضي قدما نحو تطبيق الاستراتيجية التي اتبعت مع المجنون (ماو) - كما يوصف في الصحافة الأمريكية، مع المجنون نجاد؟
الصورة ليست واضحة.. وحتي إذا كنت شخصيا ضد أي حرب جديدة في الإقليم.. وإذا كنت لاأؤيد أي هجوم عسكري من أي نوع علي إيران.. رغم أنني مختلف تماما مع توجهات ومذهب واستراتيجية النظام الفارسي.. فإن ذهاب العقل الأمريكي في اتجاه القبول بفكرة (نووية إيران) لابد أن يكون محاطا بعدد كبير من التحفظات التي لابد من تسجيلها هنا.
مبدئيا، يتناقض هذا الاحتمال مع الرؤية المعلنة للرئيس أوباما الساعي كما يدعي إلي إخلاء العالم من الأسلحة النووية وليس منطقة واحدة فيه.. وإذا كان الرئيس أوباما قد قال كلاما كثيرا لم يطبقه ولن يستطيع واستبانت للعالم وللأمريكيين حدود قدرته.. وأنه رغم ما تمتع به من مواصفات شخصية.. فإنه لم يتمكن من تجاوز حدود الإمكانية المتاحة له.. اقتصاديا وسياسيا.. عالميا وإقليميا.. وقد تعرض خلال ما يزيد عن عام لاختبارات مختلفة ثبت فشله فيها.
إن الذي يتعرض جوهريا للاختبار هنا ليس فقط الرئيس الأسود في البيت الأبيض، ولكن القوة الأمريكية العظمي، التي لايمكنها عن طريق حل من هذا النوع، أن تحافظ علي تأثيرها الدولي الطاغي.. بل سوف يكون هذا عنوانا لحقبة جديدة من التدهور الذي يقود إلي أفول في ضوء الصعود المتنامي لقوي أخري حول العالم لاسيما آسيويا.. وما ملف إيران إلا تحدٍ سوف تقاس علي أساسه عشرات من الأمور التالية.. وقتها سوف نكون بصدد عالم جديد.
- الخطورة
ومن ثم فإن السماح لإيران بامتلاك القنبلة النووية، بعد عقد ونصف العقد، من بلوغ العتبة النووية لعدد آخر من الدول، هي باكستان والهند وكوريا الشمالية، يعني ضمن ما يعني أن نظام منع الانتشار النووي، خصوصا أن إيران وقعت علي الاتفاقية التي تنظمه، بصدد الانهيار الكامل عمليا وقانونيا.. وسوف يتعرض لتحديات نوعية قريبة وفق أي قراءة استراتيجية.. وبما يؤدي إلي سقوطه.. وليست بعيدة عن الأيدي تلك التحليلات التي تري أن تحقق هذا الاحتمال في اتجاه إيران سوف تكون له أصداء واسعة علي مستوي العالم.. وبما يؤدي إلي احتراقه.. وليس فقط هز استقراره.
إن وجود القوة النووية في حوزة غير الراغبين في الانتحار لايعني أبدا أنه يمكن القبول بها في أيدي الذين يستلذون بالانتحار.. ولا يمكن القياس أبدا علي حالة باكستان والهند وكوريا الشمالية.. وأن كلاً منها لم تسع إلي استخدام القنبلة.. القياس هنا يستوجب توضيح الفارق.. باكستان محاطة بقوي نووية أخري.. وهي مرتبطة بنيويا مع الولايات المتحدة ولواشنطن قدر رهيب من السيطرة علي مؤسستها العسكرية عقيدة وتسليحا وتدريبا.. والقنبلة في حوزة باكستان تخدم المصالح الأمريكية في اتجاهات إقليمية مفهومة.. وفي المقابل فإن الهند لديها نظام علماني مستقر.. وليست لديها رغبات في التوسع السياسي والهيمنة المتعددة.. كما أن كوريا الشمالية محاطة يتوازن هش وخطير بين الصين وكوريا الجنوبية واليايان.
إيران مختلفة تماما، فهي لاتحمي بقنبلتها مصالح استراتيجية ما، كما هو الحال في التوازن بين الهند وباكستان، وإنما هي تريد القنبلة من أجل أن تستخدمها في تحقيق أمرين: مزيد من الهيمنة الداخلية لنظام الملالي الذي يمارس أكبر قدر من العنت والعنف والاستبداد قبل أن يحصل علي القنبلة.. والتوسع والهيمنة غير محدودة النطاق ومعلنة الأهداف في الاتجاهات الإقليمية المحيطة.. خصوصا في الاتجاه العربي.
المسألة مختلفة تماما، والمقارنات لابد أن تراعي تباينات المواقف، وإذا كانت الولايات المتحدة لاتريد أن تخوض حربا ثالثة وترغب في أن تغلق ملفاتها العسكرية المفتوحة.. في العراق وأفغانستان.. فإنها حين تقبل بقنبلة نووية إيرانية سوف تكون بصدد توجيه الطعنة التاريخية الثالثة والأخطر للسنة في العقد الأخير.. ناهيك عن عشرات من الطعنات المتواصلة في التاريخ الحديث.
- طعنة للسُنة
لقد وجهت الولايات المتحدة طعنة شديدة للسُنة المسلمين في أفغانستان 2001، وفي العراق 2003، وهي حين تنصر إيران نوويا فإنها تكون بذلك قد أعطت طواعية تفوقا للشيعة في مواجهة السنة ولليهود بالتالي في مواجهة نفس السنة.. وهذا معني له مضمون لايمكن تفويته ولاتصلحه خطابات جميلة في رحاب قاعات جامعات عريقة.. إن هذا سوف يكون بمثابة إعلان العداء الذي لا رجوع عنه ولا إصلاح له من قبل الأنجلوساكسونية علي السنة المسلمين الذين لم يتقبلوا حتي للولايات المتحدة موقفها الظالم فيما يخص قضية فلسطين وهي قضية سنية في الأساس.
وجود هذه القنبلة في حوزة الشيعة سوف يكون له بالتالي تأثير نوعي علي مسار الملف الفلسطيني.. بكل تعقيداته.. إيران النووية لن تمضي قدما في اتجاه السلام.. وحتي إذا ما قبلت توازن الرعب النووي مع إسرائيل فإن هذا سوف يكون له تأثيره الاستراتيجي علي أوضاع الشرق الأوسط عموما وقضية فلسطين خصوصا.. وهي أمور لاحظت تجاهلا مروعا لها، بينما كنت أقرأ التحليلات المتعمقة لعديد من الكتاب الأمريكيين حول قبول إيران نوويا.
ولايغفل أحد تأثير وجود هذه القنبلة علي أوضاع الخليج والعراق.. ومصير الأقليات الشيعية.. ومستقبل الأنظمة الحاكمة.. واستقرار الدول العربية.. وأمن الخليج.. وبالتالي أمن البحر الأحمر.. حتي لو حظيت تلك الدول بكل ما تعتقد الولايات المتحدة أنه سوف يحمي استقرارها.. في اليوم التالي لبلوغ القنبلة إيرانيا.. سوف تحدث قلاقل مهولة وسوف تكون جماعات وتنظيمات حقوق الإنسان الأمريكية هي أول من يدافع عن حقوق الشيعة.. أو ما يوصف بأنه كذلك.. مما يعني أن القبول بإيران نووية سيكون مؤداه تسليم الخليج بمفتاحه إلي إيران.. والعراق هدية فوقه.
- كل هذا، ونحن لم نتكلم عن احتمالات السباق النووي إقليميا بعد.
في الطريق إلي هذا المقال.. وبخلاف مصادر حية للمعلومات وتحليلات الخبراء.. قرأت التعليقات والمقالات التالية:
- بعد حصول إيران علي القنبلة - مقال فريد زكريا في النيوزويك (أكتوبر 2009)
- إيران بعد القنبلة.. الاحتواء ومضاعفاته - العدد الأخير من دورية فورين أفيرز.
- افتتاحية الفايننشيال تايمز يوم 17 مارس: أوباما بلا عضلات في الشرق الأوسط.
- حقيقة إسرائيل التي طال انتظارها - برنار أفيشاي - الهيرالد تربيون يوم 18 مارس.
- التفكير الذي لايمكن تصوره - جورج فريدمان - معهد ستراتفورد - مارس 2010.
- اللعبة الخطرة: ألعاب الحرب تستكشف خيارات الحرب مع إيران - جيفري وايت.
- هجوم إسرائيلي علي إيران - ستيفن سيمون - مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية - نوفمبر 2009 .
- قوة الشعب في إيران - ريتشارد هاس - التايمز البريطانية. ؟ لم يعد هناك خيارات جديدة بشأن إيران - معهد ستراتفورد.
- الجدل بشأن سياسة الاحتواء لإيران - ديفيد سينجر - النيويورك تايمز.
بمعاونة المترجمين: داليا طه - هاشم عبدالحميد مي فهيم - أمنية الصناديلي
عبد الله كمال
يمكنكم مناقشة الكاتب وطرح الأراء المتنوعة على موقعه الشخصى
www.abkamal.net
أو علي موقع المجلة :
www.rosaonline.net/weekly
أو علي المدونة علي العنوان التالي:
http//:alsiasy.blogspot.com
Email: [email protected]