
عاطف بشاى
ذنب الثورة في رقبة الليبراليين
قال لي صديقي الذي يري نفسه ليبراليا عتيداً في حرارة وثقة وهو ينفث دخان سيجارته في وجهي: إن آليات التماهي الإيدلوجي الانشطاري في اتجاة الاشتباك المحتشد ضد الأجندات المؤطرة بتحالفات تآمرية مع فلول الأحزاب الكرتونية في مواءماتها الحقيرة مع النظام البائد وصولاً إلي التآلف الثوري مع ديمقراطية ترتدي قناع «راديالكية» تتشظي في مواجهة تشرذم التكتلات الليبرالية المعاصرة نحو تشريعات فوق دستورية تتقاطع مع استراتيجية فوقية ذات نظرة أحادية غير توافقية... هذه الآليات المنبطحة في اتجاه..
صحت مقاطعا في ضيق ونفاد صبر وسخط:
ـ فعلا صدق «سارتر» حينما قال: إن الجحيم هو الآخرون وأصاب «البيركامي» حينما أكد أن سوء التفاهم هو الحقيقة الثابتة التي تجمع بين البشر.
فأنت ومن هم علي شاكلتك ممن يتحدثون بلغة لا يفهمها العامة كما لا يفهمها المثقفون الحقيقيون أنتم أصل كل بلاء وسبب كل داء.
لقد ساهم الصفوة من الحنجوريين أصحاب الياقات المنشاة من أمثالك يشاركهم السماسرة وباعة الوهم والمتاجرون بالوطن ولاعبو الثلاث ورقات والمهرجون الذين يستبدلون قناعا بقناع ويتحولون في فومتو ثانية من تيار إلي تيار.. ومن مذهب إلي مذهب ومن موقف إلي عكسه، والذين يغيرون الكرافتات من استديو إلي آخر.. في الفضائيات المستباحة وهم يلتقون في المقهي الشهير بين فقرات البرامج ليواصلوا نضالهم العظيم في المساجلات الفكرية والتطاحن الجدلي الهيجلي... والتناجز بالألفاظ.. وهم يعانون من تفاقم حالة «البارانويا» المرضية... ويدعون خوضهم معارك وهمية وغزوات عنترية مع الآخر... وأنهم قاب قوسين أو أدني من المعتقل... وأنت حينما تسألهم من هو ذلك الآخر المقصود غمز الواحد منهم لك بعينه هامسا بريبة واستنكار: معقولة... مش عارف؟!
لقد ساهموا جميعا فيما نحن فيه الآن من عدم قدرة الثورة علي تحقيق هدف واحد من أهدافها.
المهم أسفرت الانتخابات البرلمانية عن الاكتساح «الإخواني ـ السلفي» للنتائج فانطلقوا لتحقيق غايتهم وقد انتهزوا فرصة السماح بتكوين أحزاب علي مرجعية دينية وهي فرصة ما كانت لتحدث لولا سماحة الليبراليين والقوي الوطنية والسياسية التي لم تقاوم هذا الالتفاف والخلط المعيب... فما معني أن توافق علي تآخي نقيضين.. دولة مدنية.. دولة دينية... مواطنة وطائفية.... وديمقراطي... أعداء الديمقراطية... علمانيون يؤمنون بالمنهج العلمي... ودينيون يرفعون شعار مناصرة «شرع الله» إنها محاولة البائسة لذوبان الزيت في الماء فأنت مهما اجتهدت في رج القارورة فلن يمتزج العنصران أبدا... بل إن جنرالاتهم يصرخون بوضوح بعدم قبول الديمقراطية فليس من حق الشعب أن يحتكم لشريعة أخري غير الإسلام.... وصرح «ياسر برهامي» عضو مجلس إدارة الدعوة السلفية: إننا لا نقبل ديمقراطية الردة والزندقة والإباحية، وفي ثقة بالغة وزهو كبير وشكر وامتنان لله سبحانه وتعالي قال الشيخ «حازم أبوإسماعيل» إنه جاء الوقت لنقول لربنا سمعا وطاعة.... ونطبق شرع الله علي الأرض وسيحاسبنا المولي عز وجل علي ذلك حسابا عسيراَ إذا ضيعنا هذه الفرصة والمقصود هنا بالفرصة هو تحقيق الانتصار الكاسح للتيار الإسلامي في الانتخابات البرلمانية.
بني الإخوان والسلفيون دعايتهم الانتخابية إذا علي كسب المشاعر الدينية التي تغذيها النظرة الإيمانية لدي الناخبين الذين يتوقون إلي عدالة ورحمة وعيش كريم بات تحقيقها مرهونا بعطايا السماء... وهكذا تحول الخطاب الديني والعقائدي إلي تصويت سياسي علي أساس طائفي، والذين يتحدثون باسم الدين حينما يتمتعون بشرعية التواجد وأحقية تكوين أحزاب وخوض انتخابات وظهور إعلامي مكثف فلابد أن يعربوا عن توجهاتهم السياسية، بل عن آرائهم في الفن والاقتصاد والفلسفة وعلم النفس والاجتماع وجميع مناحي الحياة... ويولون ظهورهم لقناعات السلف الصالح والتنوريين من علماء الدين مالهم هم ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والإمام العظيم محمد عبده الذين يؤكدون في خطابهم أنه لا يوجد في الإسلام نفوذ ديني مطلقا في غير إقامة الشعائر الدينية... وليس في الإسلام ما يسمي عند قوم بالسلطة الدينية أو المؤسسة الدينية ولم يعرف المسلمون في أي عصر من العصور هذه السلطة الدينية، ومن الضلال القول يتوحيد الإسلام بين السلطتين المدنية والدينية فهذه الفكرة دخيلة علي الإسلام.
المهم أنهم جاءوا أخيرا من خلال أغلبية البرلمان وتشكيل اللجنة الدستورية وتكويش الكتاتني علي المناصب والذي عبر عنه الجهابذة الرافضون الساخرون بوضع صورته مرتديا دقنا وعمامة البابا علي الفيس بوك مصحوبة بتعليق عن ترشحه ليكون بطريرك الأقباط القادم.
لقد جاءوا بأسرع مما كنا نتصور وبأقوي مما كنا نتوقع وبثقة وصلافة بأكثر مما كنا ننتظر ورغم أنف الليبراليين واليساريين والناصريين والتقدميين والوفديين والثوريين والوجوديين والماركسيين والأقباط والملحدين واللادينيين وتغيرت اللهجة المرنة الودودة القابلة للحوار مع التيارات المدنية تغيراً شاملا ما بين عشية وضحاها وبدا واضحا أن العمل علي إرساء قواعد الدولة الدينية هو مطلـب جهــادي مقــدس لا يقبــل المهادنـة أو المناوره أو التأجيل.
ومصدر الثقة في تصريحاتهم يستند بالطبع إلي ترحاب الشارع المصري بهم أو فلنقل التزامه بالمظاهر السلوكية للتدين الشكلي الوهابي الذي اجتاح البلاد في السنوات الأخيرة... وأصبح يمثل مزاجا اجتماعا عاما لم يفرض فرضا ولم يتحقق قهراً... ولم يأت قسراً.... بل تسلل تسللاً ناعما وتدريجيا حتي أصبح مرغوبا وشائعا ووجوبيا وعكسه هو الغريب والمستهجن وهو غير المألوف فالمجتمع الذي كان يتقبل ويرحب مثلا بالميني جيب بل الميكروجيب والذي كانت ترتديه فتيات مصر بجميع انتماءاتهن الاجتماعية والطبقية دونما ربطه بأي أحكام أو معايير أخلاقية أو دينية هو نفسه المجتمع الذي لو تصادف ورأي الآن فتاة ترتديه لوصمها بالانحلال والعهر.... والجدير بالذكر أن هذه النظرة المغايرة يتفق عليها... الإخوان المسلمون... والإخوان المسيحيون.
أما وقد أتوا فياتري ما رأي السادة الأفاضل الليبراليين المثقفين الحنجوريين...؟!
في المرحلة الأولي التي انتهت بفوز الإسلاميين بأغلبية مقاعد البرلمان فزع واندهش وأسقط في يد الليبراليين حيث سيطرت المفاجأة عليهم فكان رد فعلهم السخرية المرة والحادة واللاذعة والتي تفجر الضحك الذي هو كالبكاء علي ما آل إليه حال الوطن من ردة حضارية تبعث علي الأسي والإحساس بالخزي من التراجع إلي عصور ظلامية خارج الزمن.
والتنكيت هنا يمثل نوعا من الحرب السلبية أو الإحساس بخيبة الأمل والخوف وعدم القدرة علي تجاوز الوضع الذي فرضه المتطرفون، وأنا أري أنه لا محل للدهشة ولا مجال للإحساس بالمفاجأة فحاضر ما يحدث امتداد لهجوم سلفي سابق غسل أدمغة العامة بكل الفتاوي المتخلفة والأفكار الظلامية والتكفيرية بدأت بزرع ثقافة الحلال والحرام وفرض الوصاية الدينية علي الشارع وانتهت بترسيخ أقدامهم في مجلسي الشعب والشوري... وفي غفلة من المتباكين اليوم علي الدولة المدنية بل ربما ما يحدث هو بسبب هذه الغفلة ونتيجة لها في نفس الوقت في المرحلة الثانية التي نعيشها الآن وهي النزاع علي رئاسة الجمهورية وظهور خيرت الشاطر في الكادر وتصريحه لمشايخ الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح بأن الشريعة كانت وستظل مشروعه وهدفه الأول والأخير لذلك فسوف يسعي لتكوين مجموعة من أهل الحل والعقد لمعاونة البرلمان في تحقيق هذا الهدف...
في هذه المرحلة تحولت السخرية وتحول التنكيت إلي عويل وولولة وعديد وانتخابات وأسئلة ثكلي ملتاعة من نوعية: لماذا الخداع..؟!
ألم تقولوا لنا إنكم لن ترشحوا أحداً للرئاسة يا كذابين؟!
ليه كدة يا وحشين؟!
قلت لصديقي الذي يري نفسه ليبرالياً عتيداً.. الندب لا يليق بترفعكم والعديد لا يتناسب وكبرياؤكم.
فبادرني بسخط وانفعال واستعلاء وهو يعاود نفث دخان سيجارته في وجهي:
ـ لقد كسبوا جولات مفصلية ما هي إلا مرحلة انتقالية أيديولوجية تمثل عدة مراحل تتفاعل فيها حركة التاريخ اللولبية مع مرجعيات أصولية ذات توجهات جدلية تتسم بانشطار حضاري يتفق ونظرية المؤامرة التي تتحدي الآليات المنبعجة التي تتقاطع محوريا مع.. وكنت قد انصرفت وهو يكمل لرفاق الطريق أبعاد المرحلة.