
محمد جمال الدين
البرادعى واستقالة النهاية!
لم يخيب الدكتور محمد البرادعى نائب رئيس الجمهورية للشئون الدولية ظن المتربصين به، فسرعان ماقدم الرجل استقالته من منصبه بداعى أنه كان هناك وقت أكثر لإجراء مفاوضات تضمن فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة دون اللجوء لاستخدام القوة.. البعض فسر استقالة البرادعى بأنها هروب من تحمل المسئولية، والبعض الآخر فسر الاستقالة بأنها بداية لتداعى الحكومة الانتقالية التى ينتمى إليها البرادعى، ومابين هذا التفسير وذاك أعتقد أن الحقيقة واضحة ولن تضيع عن فطنة رجل الشارع الذى يتميز بذكاء حاد يستطيع من خلاله أن يفرق بين من يستقيل لأسباب موضوعية أو لأسباب إعلامية أو لضمان القفز من المركب قبل أن يغرق حسب مايعتقد.
بداية لابد أن نقر ويقر معى كل مصرى أن الدكتور البرادعى كان موضع لآمال كثير من المصريين منذ قرر أن يدخل معترك السياسة، بل إن البعض اعتبرهالأب الروحى لثورة 25 يناير عندما تشارك مع شباب الثورة فى الإطاحة بحكم الديكتاتور مبارك، وعندما أيد شباب حركة تمرد باعتباره رجلا تقدميا يشهد له العالم كله، إلا أن استقالته أفقدته الكثير من رصيده لدى أبناء وطنه وطرحت معها العديد من الأسئلة يأتى على رأسها السؤال الخاص بعدم تقديم استقالته عندما قامت أمريكا بغزو العراق حينما كان يتولى رئاسة هيئة الطاقة الذرية الدولية، ولكن عندما يتم فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة يسارع بإعلان استقالته وتناسى عن قصد ما قامت به جماعة الإخوان من أعمال عنف وإرهاب وصل إلى حد القتل لمصريين أبرياء.. وخاصة أن الأفعال التى قامت بها الجماعة لا تعكس بأى حال من الأحوال سلمية التظاهر أو الاعتصام وبعد أن تمادت الجماعة فى غيها برفضها لكل أنواع الوساطة والمبادرات الداعية لنبذ العنف الممنهج المستخدم ضد المواطنين وعلى مؤسسات الدولة، وهذا بخلافقطع الطرق والاعتداء على دور العبادة.
وعلى الرغم من وضوح أساليب العنف والإرهاب الذى مارسته الجماعة ضد أبناء الشعب المصرى وقواته المسلحة ورجال شرطته، فإن البرادعى لم ير فى ذلك خطراً على الوطن واستقراره مما أدى إلى رفضه فض الاعتصامين بالقوة دون أن يقدم الحل السياسى البديل الذى يضمن فض الاعتصامين سلمياً، بل إنه فشل فى تقديم أى طرح آخر عندما طلب منه تقديم طرح بديل يغنى عن اللجوء للقوة، فبات الرجل فى نظر المصريين وكأنه يتحدث للعالم الخارجى ويحاول أن يسترضيه دون أن ينظر إليهم وإلى ما يعانونه، لدرجة أنه طوال حديثه لقناة الحياة المصرية لم يشر إلى الإرهاب الذى مارسته الجماعة ضد أبناء الشعب المصرى.
نفس الأمر تكرر تقريباً فى حديثه لجريدة «الواشنطن بوست» عندما رفض أيضاً فض الاعتصامين بالقوة، وفى نفس الحديث لم يرفض الإفراج عن الرئيس المعزول محمد مرسى إذا لم تكن هناك اتهامات خطيرة ضده، وتناسى البرادعى أن «مرسى» قيد التحقيقات، بعد أن وجهت إليه اتهامات بالتخابر والتحريض على القتل، وهذا تحديداً ما جعل الصحافة القومية التابعة للدولة تهاجمه، وبسبب هذا الهجوم خرج علينا نائب رئيس الجمهورية المستقيل بتصريحات أخرى يتهكم فيها على مهاجمة العاملين فى الصحف القومية لتصريحاته.
أعلم كما يعلم غيرى أن الدكتور البرادعى رجل وطنى ولا أستطيع أن أشكك فى وطنيته، حتى وإن كان يرى أن ما حدث فى 30 يونيو انتفاضة وليس ثورة، إلا أن تركيبة البرادعى وتكوينه الشخصى تكاد تكون أقرب إلى شخصية «المفاوض» كالذى «يوفق رأسين فى الحلال» بين الأضداد وهذا ما أهله إلى نيل جائزة نوبل للسلام، إلا أن الفكر الثورى والمواقف الحازمة التى تصل بأى مجتمع فى ثورة وما يعقب هذه الثورة من مرحلة انتقالية لا تعرف طريقها إلى عقله وشخصيته.. وأنا هنا لن أذهب إلى ما ذهب إليه غيرى بأن البرادعى كان يهدف إلى تمكين جماعة الإخوان من الحكم، حينما كلف من أمريكا بتنفيذ ما تريده بعدما اتفقت الجماعة مع الإدارة الأمريكية فى تمكينها من البلاد، لأننى لا أود أن أدخل فى هذه الدائرة من التشكيك، حتى وإن كان ما ردد هذا يؤكد أنه يملك الدليل على ما يقول.
ولكنى أعود وأقول أن البرادعى بتقديمه لاستقالته من منصبه كنائب رئيس الجمهورية جعل الكثيرين يتشككون فى نوايا الرجل الذى يهدف فى المقام الأول إلى خدمة بعض القوى الخارجية التى لا ترى سوى مصلحتها فقط حتى ولو كانت ضد مصلحة الوطن الذى ينتمى إليه حتى وإن كانت هذه النوايا طيبة.
لذلك لم يكن مستغرباً لدى البعض بأن يكون البرادعى هو من هدد بتقديم استقالته إذا لم ينفذ رأيه بالدعوة إلى المصالحة مع الجماعة التى أعملت القتل والإرهاب والعنف فى أبناء الشعب المصرى أثناء اجتماع مجلس الدفاع الوطنى، وهو نفس الرجل الذى وصف من وقفواضده وشككوا فى نواياه وأهدافه بأنهم «أذناب مأجورة» مؤكداً أن مناداته بالحق والحرية والإنسانية ستستمر طالما بقى من عمره بقية.
وأخيراً هو نفسه الرجل الذى لم يستقل عندما ضربت أمريكا العراق ودمرت بنيته الأساسية وقضت على جيشه ومزقت وحدته.
الدكتور محمد البرادعى.. حسنا فعلت بتقديم استقالتك التى من المؤكد أنها أنهت حياتك السياسية التي لم تبدأ بعد والتى أيضا كشفت لنا نحن المصريين أيضا أنك لم ولن تكن أبدا رجل الدولة الذى ينتظروه بعد أن غلبت مصلحتك الشخصية على مصلحة وطنك.