
عاطف بشاى
جـوقـة العميـان
هذه الأبيات: «القاسية» انطلقت بها حنجرة عضو تكفيرى من أعضاء مجلس النواب.. مخاطباً رئيس الوزراء «إسماعيل صدقى» مادحاً ومنافقاً قرار مجلس الوزراء بفصل «د. طه حسين» أفندى الموظف بوزارة المعارف العمومية من خدمة الحكومة.. التى كان قد نقل إليها من الجامعة بتاريخ (3 مارس 1933) وحرم بموجبها من منصبه الرفيع كعميد لكلية الآداب كعقوبة له عن تأليف ونشر كتاب «فى الشعر الجاهلى» (1926) والتى برأه منها النائب العمومى.
يكفيك أن أنقذت دين «محمد» من شر طغيان اللئيم المفسد / لو أن شرع الله يجرى حكمه/ لقضى بإعدام الشقى الملحد.
لكن عقوبة النقل تلك لم تشف غليل التكفيرين الظلاميين وقتها فانتهزوا فرصة اختيار الملك «فؤاد» «لإسماعيل صدقى» رئيساً للوزراء ليحكم بيد من حديد.. ويكبت أى اتجاه لحرية الرأى والفكر فقدم المعارضون استجواباً فى مجلس النواب لوزير المعارف.. بدأ الاستجواب بشكر وزير المعارف لإنجازاته العظيمة لتحريم وتجريم الفنون.. وانتصاراً لوأد الإبداع.. وتدعيماً لقوى التخلف والجهل.. وذلك بإغلاقه معهد التمثيل والرقص التوقيعى - وبنص الاستجواب - «كان لوجوده مساس بأدابنا العامة وتقاليد الدين».. ثم حدد الاستجواب الاتهامين اللذين ينسبهما للدكتور «طه حسين».. أولهما: «أطلعنا على صورة نشرت بجريدة الأهرام تمثل طلبة كلية الآداب بالجامعة المصرية حول عميدهم الدكتور «طه حسين» وقد جلست كل شابة إلى جانب شاب.. كيف وقع هذا؟!.. وكيف تستمر وزارة المعارف على عدم احترام الشعور الدينى والآداب القومية؟!.
ثانيهما: مايزال كتاب «فى الشعر الجاهلى» يدرس فى الجامعة بعنوان «فى الأدب الجاهلى».. إن تغيير العنوان لم يغير شيئاً من روحه «اللادينية» فإن السموم التى أراد الدكتور أن ينفثها فى كتابه ما تزال مائلة فى كثير من فصوله ومباحثه.. فكيف سكتت وزارة المعارف عن ذلك كله ولم تحرك ساكناً؟!.. وكيف تسمح أن يكون ذلك الرجل عميداً لكلية الآداب بالجامعة المصرية؟!.
ثم تبارى النواب فى الحديث منقضين على «طه حسين» فى غضب جامح يصفونه بالفسق والفجور والخروج على الآداب القومية والتقاليد الإسلامية ويستنكرون أن تكون الجامعات التى من المفترض أنها أنشئت لتكون منبعاً للفضائل ومورداً عذباً للعلوم وسياجاً للأخلاق وحصن وقاية من الرذيلة تسمح لهذا المارق المنحل أن يقوم بالتدريس بها.. فإذا كان استقلال الجامعات حائلاً دون هذا كان عدمها خيراً من وجودها.. وفى هذا الشأن أعلن النائب.. أنه لايكفى مطلقاً أن ينقل «طه حسين» من الجامعة إلى وزارة المعارف لأن مركزه بالوزارة يمكنه من الإشراف على فروع التعليم العربى فى أنحاء القطر.. وفى هذا من الخطر الكثير.. إن مثل هذا النقل كمثل نقل جيش الاحتلال من العاصمة إلى منطقة القناة.
«إن المعركة ناشبة الآن بين الدين واللادين.. بين الفضيلة والرذيلة.. بين الحق والباطل، فلأى فريق أنتم منتصرون، لاشك أنكم ستنصرون الحق وتؤيدون الفضيلة وتدافعون عن الدين والأخلاق».
يقول الكاتب الكبير «محمود عوض» فى كتابه المهم «أفكار ضد الرصاص» لم تهدأ المطاردة إلا حينما تقررت العقوبة الأصلية أخيراً عقوبة الفصل والطرد.. إنها عقوبة ضد العقل والتفكير والمنطق والحرية.. رغم أن «أحمد لطفى السيد» مدير الجامعة قدم استقالته احتجاجاً على هذا القرار الظالم.. ذاكراً فى خطاب استقالته الذى أرسله إلى رئيس الوزراء أن فصل «طه حسين» هو أمر يمس كرامة البحث العلمى وكرامة الجامعة.. يمس حرية التفكير وحرية الرأى.. يمس أبسط الحقوق التى يعترف بها أى مجتمع لأفراده.
الآن فقط يمكن أن تهدأ المطاردة التى بدأت منذ ست سنوات.. الآن فقط يمكن لكل القوى الكريهة فى المجتمع أن تعلن ابتهاجاً وانشراحاً للنتيجة التى توصلت إليها أخيراً.
وتبدأ الكتب العديدة المتهافتة المنطق.. المتداعية الأسلوب والجوهر تنتشر لترد على كتاب «طه حسين» وتهاجمه بضراوة تفتقر إلى الموضوعية والحجة التى تقرع الحجة.. منها كتاب نقص كتاب «الشعر الجاهلى» من تأليف الشيخ «محمد الحضر حسين» المدرس بكلية الشريعة بالأزهر.. ووجد الشعر مجالاً فسيحاً للهجاء الجارح والقذف المباشر والإتجار الواضح بالقضية فنشر أحدهم تحت عنوان.. طريد العلم والدين.. يقول فيها مخاطباً «طه حسين»:
بغضت بالإلحاد ذكر الجامعة/ للناس لافاتت يديك الجامعة / غادرتها للهزل داراً بعد أن / كانت ترجى للحياة النافعة / تملى بها التشكيك ليس العلم يا/ أعمى التشكك فى الأمور الواقعة.
لكن «طه حسين» الذى فلت وقتها من جريمة قتله بناء على تكفيره.. ظلوا يطاردونه حتى أيامنا الغبراء تلك حتى قتلوا تمثاله مؤخراً.. انتقموا منه بعد موته.. أطاحوا برأسه بعد أن فشلوا فى الإطاحة برأيه.. فعادوا بنا إلى عصور سحيقة من التخلف والجهل بسطو صريح على عقل أمة وتراث شعب وتاريخ حضارة باعتبار أن التماثيل محرمة لأنها صنعت للعبادة وليست فنوناً راقية تجسد أفكاراً سامية وإبداعات إنسانية عظيمة.. وإذا كانت تلك التيارات المتشددة الغبية مازالت عند تصوراتها المريضة تلك فإنه من باب أولى أن تكون اعتداءاتهم مركزة على «طه حسين» الذى سبق تكفيره.. بسبب كتابه فى الشعر الجاهلى.. وبسبب تأثره بالحضارة الغربية الكافرة.
لكن لأن الإبداع لايموت.. وحرية الرأى والفكر لايمكن لأعداء العقل سحقها.. وحركة التاريخ - تنحاز للحداثة والتجديد والتطور والتنوير وحرية الاختلاف.. ولاتنتصر للجهل والجمود والظلام والإرهاب يبقى كتاب «طه حسين» صامداً فى الزمن.. خالداً فى الذاكرة.. ويمضى المكفرون والظلاميون وأعداء الحرية فى مزبلة التاريخ.. سوف نعود ننشد مع «نزار قبانى» عن «طه حسين».
هل عيون الأدب نهر لهيب / أم عيون الأديب نهر أغان / آه يا سيدى الذى جعل الليل / نهاراً.. والأرض كالمهرجان/ ارم نظارتيك كى أتملى / كيف تبكى شواطئ المرجان/ ارم نظارتيك.. ما أنت أعمى/ إنما نحن جوقة العميان.