
عاطف بشاى
ضحايا «يوسف إدريس»
كنت أهفو إلى أن أجد مؤلفًا جديدًا يشمل دراسة نقدية مستفيضة تشمل أعمال القاص والروائى العظيم «يوسف إدريس».. فما صدر فى هذا الشأن شحيح ولا يتناول الكثير من أعماله الإبداعية.. حتى شملتنى سعادة غامرة حينما وجدت كتابًا صدر مؤخرًا للناقد الأدبى «شعبان يوسف «بعنوان (ضحايا «يوسف إدريس».. وعصره) فهالنى ما قرأت.. وسيطر علىَّ حزن عميم وسخط كبير.. وعجبت لنفسى.. وأنا أواصل القراءة فصلًا بعد فصل.. ما الذى يدفعنى إلى هذا الكدر والاكتئاب وبمقدورى أن أترك الكتاب جانبًا؟!.. هل هو نوع من (المازوكية) أو (تعذيب الذات)؟!.. لا أدرى.
مقدمة الكتاب الصادمة والتى دفعت الناقد إلى فعلته الميمونة يوضحها – وهو يتلمظ غيظًا – مؤكدًا أن «يوسف إدريس» ظل شاغلًا للحياة الثقافية والأدبية والسياسية ما يزيد على الأربعة عقود من الزمان ليصبح فى مقدمة صفوف كُتَّاب القصة القصيرة بشكل مطلق فى مصر والعالم العربى.. لماذا؟!.. ليس السبب – من وجهة نظر الناقد – كما نتوقع موهبة «يوسف إدريس» الطاغية والفياضة.. ولكنه يقول وبثقة مدهشة ويقين لا يقبل المراجعة: السبب هو (حدوث استقطاب عام للدرجة التى أضرت كتاب الجيل الذى سبقه: وبالتالى كتاب جيله الذين أصبحوا شبه مستبعدين عن المشهد الأدبى تمامًا.. وساعدت العلاقات القوية بين «إدريس» والسلطة السياسية على تعميق وجوده الأدبى فى الثقافة المصرية والعربية والعالمية.. وكرَّست تلك الظاهرة للكاتب الأوحد والكاتب الظاهرة والكاتب الأسطورة.. ودون ذلك لا شيء) ليصبح «يوسف إدريس» ظاهرة فريدة من نوعها فى التاريخ الأدبى والثقافى المصرى والعربى.
ويبرر الناقد طغيان هذا الثأثير ونتيجته الضارة فى أنها لا تترك القارئ (المسكين) حرًا فى الاختيار أو الانحياز الطبيعى لأنه يجد نفسه دائمًا أمام آلات دعائية أو سياسية تلعب الدور الرئيسى فى تكريس كاتب معين أو شاعر ما أو كاتب للقصة.. وتظل الآلتان تعملان بقوة وانتظام.. حتى يتم تتويج ذلك الشاعر أو الكاتب أو القاص.
و لم يستلفت نظر الناقد (الجبار) أنه إذا كان هذا صحيحًا فإنه يعنى أن القارئ لا ذائقة له ولا فهم ولا ثقافة ولا معرفة ولا قدرة على التصنيف والتمييز وإدراك الأصيل من الزائف والغث من السمين.. وأمى يخضع خضوعًا تامًا لتوجيه ووصاية تلك الآلتين الدعائية والسياسية وهو مسلوب الإرادة والعقل.. أقول كيف لم يستلفت نظره أن هذا الاستقطاب تمركز فى شخص «يوسف إدريس» ولم يتمركز أيضًا فى شخص «نجيب محفوظ» الذى كان معاصرًا له ويملأ الحياة الأدبية بحضور مبهر وغير مسبوق أوصله إلى جائزة نوبل.. هل كان عصيًا على الاستقطاب، أم إنه استطاع بموهبته الهائلة أن يسيطر على عقول وقلوب القراء ويفرض نفسه دون وصاية أو تبعية للسلطة الحاكمة.
وإذا كان الناقد فى محاولة بائسة منه أن يربط ربطًا تاريخيًا بين الاستقطاب الحديث بالاستقطاب القديم، مؤكدًا أن هذه الظاهرة ليست جديدة ولكنها تعمل منذ أن اكتشف الخليفة أو الأمير أو الوالى الحاكم أهمية الشاعر فى الدعاية.. أقول أنها محاولة غير لائقة وغير منصفة وتتصف بالإجحاف والادعاء السخيف وهو نفسه أنكرها دون أن يدرى حينما أراد أن يوثقها فى تناقض مضحك حينما استعان بكتاب «فاروق عبدالقادر» (اليقين المراوغ فى قصص «يوسف إدريس») وقال إن «فاروق» ذكر ما معناه أن «يوسف» من الممكن أن يهتف فى مواجهة عيب ما فى السلطة الحاكمة ولكنه يعرف جيدًا متى يقف أمام الخطوط الحمراء.. لا بأس هذا الكلام لا يعنى محاولاته لكسب ثقة السلطة أو نفاقها أو التودد إليها.
من ناحية أخرى، فإنه للأسف اجتزأ عبارة لم يكملها من كلام «فاروق» عكس ما يصبو إلى تحقيقه وبشهادة تفحم هذا الادعاء حيث يقول «فاروق» مكملًا: (وقد خاض «يوسف» عددًا من المعارك وحينما تخطى الحدود الحمراء فى مقالات «البحث عن السادات» 1983 أقامت له صحافة النظام محاكمة رهيبة ولقى هجومًا رسميًا شديدًا شارك فيه الرئيس نفسه ومنع «الأهرام» نشر ردوده على تلك الحملة فنشر فى «الأحرار» خطابًا موجهًا للرئيس عنوانه «أشكو إليك منك».
ثم أن المعيار الصادق والمهم هنا هو الرجوع إلى قصص وروايات «يوسف إدريس» البالغة الجرأة فى نقد أساليب الحكم والسلطة فى كافة العهود وليس الاستناد إلى استنتاجات متهافتة أو أحوال مرسلة متعسفة.. وفى كل الأحوال فإن مهمة الناقد وواجبه وموهبته الحقيقية فى النقد والتحليل وإلقاء الضوء على مواطن الإبداع وتجليات النص الأدبى ومخزاه السياسى والفلسفى.. وليس أن يتفرغ الناقد إلى تأليف كتاب من خمسة عشر فصلًا فى (271) صفحة فى هجاء «يوسف إدريس» ونقد سلوكه الشخصى وتصوير نرجسيته وتعاليه وانتهازيته – من وجهة نظر كاتبه – فى جنوح إلى لغو ممجوج ونميمة لا تليق بناقد.
والحقيقة أن «فاروق عبدالقادر» الذى استشهد الناقد بكتابه «اليقين المراوغ» بما يملك من مقدرة فائقة وموهبة نقدية عظيمة الشأن انصرف فى الكتاب إلى قراءة قصص وروايات «يوسف إدريس» بتحليل عميق.. ورؤية نقدية مبهرة وخلاقة.. ولم ينجرف إلى ما انجرف إليه الناقد.. وبئس ما انجرف إليه.
أما ارتباط النجاح الكاسح بالاستقطاب الدعائى والسياسى فهو جور شائه ومغرض.. وتجرؤ بغيض على مواهب الكبار الآثرة ..