حرب أكتوبر الجديدة التى توقعها العسكريون فى ٧٥
آن الأوان لنقرأ حرب أكتوبر 73 بالاستشراف المستقبلى الذى توصل له الخبراء والقادة العسكريون فى العالم، وأن ننظر لحربنا المجيدة بأنها ختام حروب الألفية الثانية لتنقلنا إلى شكل حروب الألفية الثالثة التى وصفتها نتائج حربنا من 46 عامًا مضت، دومًا نتحدث عن الدروس المستفادة وهى ذات أهمية قصوى، ولكن لم نتحدث عن مسرح العمليات الجديد الذى حددته لنا تلك الحرب التى خاضها آباؤنا المصريون العظام.
بعد الحرب بعام تقريبًا قام العسكريون الإسرائيليون بإصدار الكتب والأبحاث لحفظ ماء وجههم من هزيمتهم فى ٦ أكتوبر وانتصار كبير لمصر عليهم رغم المساعدات الأمريكية المعلنة والمستترة لهم فى تلك الحرب، المهم أرادوا القول إن الحرب جولات والمعارك فى الميدان ماتش كبير تسجل فيه أهدافًا وتسجل فيك مثلها، فى محاولة منهم لإثبات أن حرب أكتوبر متساوية الأهداف بين الطرفين وهى أكذوبة حاولوا أن يروجوها رغم محاسبة قادتهم فى لجنة (جرانات) التى شكلت فى نوفمبر 73 لقصورهم فى الحرب وهزيمتهم.
وعلى الرغم من صدور كتب للقادة العسكريين المصريين فى نفس التواريخ توضح تفوقنا وانتصارنا ومسار عملياتنا وحقيقة الثغرة، فإن الرئيس السادات وجد هناك ضرورة قصوى قبل إقدامه على مفاوضات سلام أن تكون هناك مكاشفة حقيقية علنية يشارك فيها كل الخبراء والعلماء العسكريون والسياسيون من كل دول العالم لتقديم آرائهم ومناقشاتهم وتعليقاتهم عن حرب أكتوبر لحسم أى تأويل فى شأن تحقيق الجيش المصرى لهدم أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر، وأن يعطى العالم هذه الحرب العادلة حقها المشروع فيمن المنتصر ومن المهزوم؟
ولأن الجيش فى ذلك الوقت لم يكن لديه قاعات للمؤتمرات ولا مكان يصلح لعقدها كان يملك دشمًا وثكنات تحت الأرض ليرد كرامة المصريين فوقها، المهم أننا لم يكن لدينا مكان يصلح لعقد مؤتمر عالمى كبير تحضره 26 دولة ويتحدث فيه 185 مشاركًا، علاوة على المدعوين للحضور إلا فى جامعة القاهرة الذى كان يرأسها وقتذاك ( د . صوفى عبدالله ) والذى طلب منه الرئيس السادات أن يحضر لهذا المؤتمر وأن توجه الدعوات باسم الرئيس وأن نائبه حسنى مبارك هو الذى سيلقى كلمة الافتتاح نيابة عنه، وبالفعل تم الإعداد للمؤتمر فى المدة من 27 - 31 أكتوبر 1975 تحت عنوان (الندوة الدولية لحرب أكتوبر 73) وعرضت فيها الآراء بكل صراحة ووضوح وتمت المناقشات فى شفافية تامة.. وإن شاء الله يقدرنى الله أن أنقل لكم كل حرف لهذه الندوة فى كتاب.
تمت الندوة تحت قبة أقدم صرح علمى على أرض مصر يليق بعمل عسكرى كبير لقادة عظام وشعب عريق، ولكن ما استوقفنى بعد سرد سير العمليات وتقييمها على الجبهتين المصرية والإسرائيلية والشهادة العالمية بأن النصر كان حليف قواتنا الباسلة ولا يمكن تزييف الحقائق بأى شكل، هو استشراف الخبراء لشكل الحروب المنتظرة وأين ستكون جبهاتها بعد أن غيرت حرب أكتوبر مفاهيم كثيرة فى الفكر العسكرى، والأكثر أنها وضحت أين ستكون المحطة القادمة من الحروب؟ وقد رأيت أن ما ذكره القادة العسكريون العالميون فى عام 75 يتحقق بحذافيره على الجبهات التى حددوها والتى ستكون الكبرى منها فى البحار لا محال وأن القوة البحرية هى التى ستقود الأفرع العسكرية الأخرى إلى مهامها فى هذه الحروب.
الخبير العسكرى الفرنسى (جورج بوى) قال فى هذه الندوة: إن تلك الحرب أكتوبر 73 قامت بإثبات أنه لم يعد هناك مسرحان يتميزان للعمليات (البحر المتوسط والمحيط الهندى)، بل مسرح واحد يمتد من الخليج العربى - الفارسى إلى البحر المتوسط فى المغرب، وقد أوضحت الحرب أن هذه المنطقة تشكل وحدة كبيرة جغرافية سياسية واستراتيجية فى آن واحد، ولَم يعد فتح وإغلاق قناة السويس شبيهًا بفتح وغلق طريق تجارى يربط بين (مسرحين)، بل أصبح يمثل اضطرابًا هائلاً لمسرح (متماسك) وهذا المسرح للعمليات يؤكد شخصيته بعدم قبول (انتماء الجزء الغربى من المحيط الهندى إلى الزحف الآسيوى، وانتماء البحر المتوسط لمنطقة الزحف الأطلنطى) وأن حرب أكتوبر 73 أظهرت وعيًا جديدًا بالوحدة الإسلامية وأظهرت أيضًا الحاجة إلى الوحدة السياسية والأيديولوجية من المغرب إلى قرن أفريقيا رغم اختلاف النظم السياسية الداخلية وأنواع الصراع المحلى بين الدول العربية أو الدول المجاورة لها مثل إيران ودارت هذه الوحدة حول مساندة الفلسطينيين، ويضيف جورج أن البحر المتوسط هو منطقة احتكاك أزلية، بل منطقة حياة مشتركة بالنسبة لجميع الدول المطلة عليه ومنذ حروب ميديس بين (الفرس واليونانيين) اتجه الشرق الأوسط إلى الشرق أكثر منه إلى الغرب، وإذا كان الإسلام قد ازدهر فإن الشعب العربى الذى يشكل قطاعه المتميز قد أعطى الأولوية للاتجاه إلى الغرب، وأن المحيط الهندى بتحرر شرق أفريقيا أحدث تغييرًا جذريًا فى الوضع الجغرافى وعبرت مياهه فى سنه 1964 ثلاثمائة مليون طن من البترول، وسوف ترتفع هذه الكمية بلا شك إلى مليار من الأطنان فى السنوات القادمة (انتهى استشراف بوى).. ليأتى لنا ما حققته حربنا المجيدة محملاً بصور كيف سيحاربون أول ملحمة عربية إسلامية من المحيط الهندى إلى الخليج العربى تكونت وتعاونت فى حرب أكتوبر 73، ليقوموا بأعمال وحروب صغيرة لتفرقتها منها المذهبية وأخرى عرقية مستخدمين الاٍرهاب الدينى المزيف ليفتك بالجسد الإسلامى بكل مذاهبه وطوائفه وحروب حدودية مصطنعة، وجعلوا من تركيا وإيران خصمين لباقى دول الشرق الأوسط وخاصة فى المسارح البحرية، وتبقى حرب أكتوبر النبراس الذى يوضح لنا كل معضلة فى تاريخنا الحديث.