
د. ايريني ثابت
ولنفسك فاغفر!
ترجع كلمة (غفران) فى اللغة اليونانية لمعنى الغفران الحقيقى الذى لا ننتبه إليه.. فكلمة (Aphiemi) اليونانية تعنى: اجعلها تبعد عنك.. اطلقها بعيدًا.. انفصل تمامًا عنها ولا تعد تذكرها.
فى الأسبوع الماضى كتبت عن الفيلم الأمريكى (سبعة باوند) والذى لم يستطع بطله أن يسامح نفسه، ويغفر خطأه غير المقصود، ومن ثم لم يتصالح مع نفسه، بل تبرع بأمواله وأعضاء من جسده لينقذ حياة بعض من يحتاجونها.. وكان الثمن أن ينهى حياته فيأخذون أعضاءه، ويتخلص هو من حياته لأنه لم يستطع أن يغفر ويسامح ويتصالح..
الغفران عقيدة لا تتجزأ.. فهؤلاء الذين يستطيعون الغفران للغير، يغفرون لأنفسهم.. وهؤلاء الذين لا يفهمون الغفران، لا يغفرون للآخر وحتى لو لم يعاقبوا أنفسهم على أخطائهم، يعيشون فى حالة دائمة من الغضب والحزن ولا يعرف السلام طريقًا لحياتهم أبدًا.. والخطأ الشائع هو أن الذى يغفر هو الضعيف الذى لا يقدر على الانتقام أو الرد على من أساء إليه بطريقة أو بأخرى.. ولكن العكس هو الصحيح بشهادة علماء النفس.. لأن الغفران يحتاج قوة أكبر كثيرًا من قوة الانتقام..
بالعودة إلى معنى الغفران نجد أن أصل الكلمة يعنى (let go) أو (set free).. بدلًا من أن تظل متعلقًا بالإساءة التى حدثت لك أو التى أسأت بها لآخرين، تقرر أنك ستترك تلك الإساءة.. تطرحها بعيدًا عنك.. تطلقها، أو بمعنى آخر تطلق روحك بعيدًا عنها.. تحرر روحك من الالتصاق بتلك الإساءة التى تجرك للغضب وللحزن وتستهلك طاقتك إما بالرغبة فى الانتقام، أو الشعور بأنك ظُلمت، أو الإحساس بالندم عما اقترفت من إثم.. الغفران والتحرر من تلك المشاعر السلبية ليس معناه عدم إحقاق الحق وإحلال العدل.. إن كنت تستطيع رد المظالم فقم به، وإن كنت تستطيع أن تسترد ما سُلب منك، فلا تتردد.. ولكن احترس من المشاعر السلبية فى مساعيك لرد الحقوق..
فى بلاد التبت البعيدة تتبع القبائل طقسًا خاصًا بالغفران.. يختارون بقعة هادئة ويجلسون فى هدوء وفترة من التأمل الصامت.. يدخل كل واحد أعماق نفسه ليجهز نفسه لطقس الغفران.. ويقول د.شهاب الدين الهوارى عن هذا الطقس فى مقاله الذى أعجبنى كثيرًا: (يدخل فيه الفرد بصلاة يلتمس فيها حضور الرب ومباركته، ثم وحين يجد صفاءً روحيّاً يستحضر تجربته التى يرغب فى ممارسة طقس الغفران عليها، ثم يقول: «الآن، وفى حضور إلهى أنا أرى كيف شاركت فى صنع موقفى هنا.. والآن، أمتن لدورك الذى لعبتِه فى حياتى، وأطلقك من ذكراى»)..
وحتى ما أفهم فكرة الحرية التى يجلبها لنا الغفران، بحثت فلم أجد أقوى من قصة الراهبين البوذيين.. كانوا قد وضعوهما فى السجن دون أسباب وقاموا بتعذيبهما لفترة طويلة ثم تغيرت الأحوال وتركوهما.. وذهب كل واحد فى مكان.. ثم التقيا بالصدفة بعد بضع سنوات فسأل أحدهما الآخر: «هل غفرت لهم؟» أجاب: «لا.. ولن أغفر لهم أبدا!!» فقال الأول: «خسارة!! ما زلت حبيسًا فى سجنهم، متألمًا بتعذيبهم»..
نحن نحرر مشاعرنا بدلًا من أن تظل مسجونة إما فى سجن تعذيب الآخرين لنا وشعورنا بالظلم والرغبة فى الانتقام، أو فى سجن تعذيبنا لذواتنا وجلدها لأننا أخطأنا فى حق الآخرين، أو فى حق أنفسنا.. نحرر أنفسنا من سطوة الوعود الكاذبة للغضب.. فهو يعدنا بأننا إذا انتقمنا سنعيش فى سلام، وإذا جلدنا ذواتنا من أجل ما اقترفناه فى حق أنفسنا سنعدل الميزان، ونحقق معانى العدل..
إن فكرة أننا بشر نخطئ أحيانًا ويخطئ الآخرون فى حقنا أحيانًا، تجعلنا ننظر للأمر من منظور بسيط مفيد.. ألا وهو أنه لا يوجد دور اسمه: الجانى.. ودور آخر اسمه: الضحية.. كل واحد منا «جانى» أحيانًا حتى لو لم يقصد وضحية أحيانًا حتى لو لم يخضع.. تلك القناعة تساعد كثيرًا فى تطبيق الغفران والمصالحة مع النفس..
ومرة ثانية أقتبس من د.الهوارى ما كتب إذ يقول: (إن الذين اختبروا الإساءة يجدون أنفسهم فى قلق وخوف دائم وهم تقريباً فى حالة التأهب القصوى بشكل دائم، والسر هنا أن اللوزة الدماغية (Amygdala)، وهى المسئولة عن الدفاع فى الخطر، بعد أن فشلت فى توفير الحماية لصاحبها ساعة الإساءة تظل دومًا فى حالة تأهب وكأنها تريد ألا تكرر نفس الخطأ، ولمثل هؤلاء أقول دائمًا «ولنفسك فاغفر». اغفر أنك لم تستطع أن تدافع، أو عجزت عن المقاومة أو الردع، أرسل رسالة سلام إلى لوزة دماغك أن لا بأس، لا يزال بالعالم بكل ما فيه ومن فيه مكان آمن)..
ولنفسك فاغفر!!