
د. ايريني ثابت
سبعة باوند
يبدأ الفيلم الأمريكى (Seven Pounds) بالبطل (ويل سميث) يتصل بالطوارئ ليبلغ عن حالة انتحار.. وحين تسأله عاملة الطوارئ عمن يكون المنتحر يقول: أنا.
اختلف النقاد حول الفيلم، وكان أكثرهم ضد هذه التيمة الغريبة، ولكنه حقق إيرادات ضخمة حين عرض فى دور السينما عام 2008.. تدور أحداث الفيلم حول البطل الذى تسبب فى مقتل 7 أشخاص منهم زوجته فى حادث تصادم سيارته - ومعه زوجته - بسيارة أخرى فيها 6 أشخاص.. ولا يكشف الفيلم أى حوار داخلى ليفهم الجمهور الصراع الداخلى للبطل، ولكن تسير الأحداث فى اتجاهات سبعة أشخاص ينتقيهم البطل بعناية ويتأكد بنفسه - مستخدما الحيلة أحيانًا - ليقرر أن يتبرع لكل واحد منهم بما يحتاج إليه من أعضاء جسده.. ليعيد لكل واحد من هؤلاء السبعة حياته عوضًا عن حياة سبعة أشخاص أضاعها هو.
الفيلم مؤلم لأن الذى يعرف حقيقة ما يصنعه البطل ليكفر عن ذنبه هو صديقه المقرب والمشاهدون فقط.. والألم يتزايد خطوة بخطوة حين نفهم أنه تبرع بكلية أو برئة أو بنخاع فى أثناء حياته القصيرة.. ثم ننتقل مع الأحداث لنفهم أنه سينتحر ليترك بيته الرائع لسيدة وطفليها، ويوصى بقلبه لشابة تكاد تموت بسبب اعتلال قلبها، وبعينيه لرجل فقد البصر.
يموت البطل فى المياه المثلجة حتى يحفظ أعضاءه للذين سيتبرع لهم بها.. وينتهى الفيلم بتصوير كل واحد منهم فى حياة جديدة سعيدة.. ولكننا أبدًا لا نتعرض لما يدور بخلد البطل الذى قدم جسده وما يملك ليكفر عن ذنبه، ويموت ليحيى سبعة عوضًا عن السبعة الذين ماتوا فى الحادث.
بشكل مهنى على المستوى النقدى، أقول إن المؤلف تحاشى بذكاء أن يكشف أعماق البطل ليقلل من الألم النفسى للمشاهد حين يرى كم الشعور بالذنب لدى البطل.. والسبب أن المؤلف اعتمد فى فكرة فيلمه على شخص حقيقى تسبب فى موت سبعة أشخاص فى حادث سيارة بالفعل.. ووصفه المؤلف بأنه «أكثر شخص حزين قابلته فى حياتى».. إذاً قدم الكاتب مأساة الشعور بالذنب ومحاولة التكفير عنها دون أن يدخل أعماق النفس البشرية المتألمة بهذا الشعور.. ودون أن يقدم حلاً حقيقيًا لأن تقديم الإنسان حياته بهذا الشكل ليس حلاً يستطيعه الجميع.. وليس حلاً للشفاء من عقدة الشعور بالذنب.. وهو أيضًا لم يكن حلاً لصاحب فكرة الانتحار ألا وهو البطل لأنه فى النهاية لم يتمكن من أن يسامح نفسه ويعيش من جديد حياة يقبل فيها ذاته.. بل اختار الموت ليتخلص لا من عقدة الذنب، بل من حياته كلها.
لا أدرى لماذا أحب الجمهور الفيلم.. ربما لأنه مصنوع بشكل جيد وأبطاله يؤدون أدوارهم بامتياز.. ربما لأننا نتعاطف جدًا مع أى إنسان يعترف بأخطائه، بل يحاول التكفير عنها بكل طريقة حتى لو كانت طريقة مؤلمة للغاية وتراجيدية كما بالفيلم.. وربما لأننا نفرح باستعادة حياة آخرين كانوا على وشك الموت وأنقذهم البطل بفكرته عن التكفير عن ذنبه، بأن منحهم حياة بموته! لا أدرى!
لا يدافع الفيلم بشكل مباشر عن الذين يختارون إنهاء حياتهم بأيديهم.. ولكنه يناشد المشاهدين ما بين السطور أن يغفروا للبطل جريمته غير المقصودة التى راح ضحيتها أبرياء، وأن يتعاطفوا مع قراره بقتل نفسه ولا يعتبرون هذا خطيئة للبطل.. بل أن يلتمسوا له العذر لأنه لا يستطيع أن يعيش حاملاً جريمته أمام عينيه!
ولكن.. يبقى الشعور بالذنب واحدًا من أكبر مشكلات النفس البشرية التى لا تؤمن بمبدأ الغفران.. لا ترى أن الحياة تتجدد حين يغفر الإنسان للآخرين ولنفسه.. لا يستطيع الإنسان غير المتسامح مع الآخرين ومع نفسه أن يرى الحياة بمنظور الرحمة.. فقط يرى العدل المطلق – وهو مفهوم غير موجود على الأرض وغير واقعى.. بطل الفيلم يرى أن عليه أن يعيد الحياة لسبعة لأنه تسبب فى موت سبعة! فكرة الميزان تسيطر على البطل المسكين.. مع أننا لو طبقنا هذا الفكر، سنخلص إلى أنه لا يوجد ما يعوض حياة من ماتوا.. إذا كان منهم أب ترك أطفاله فلن يعوضهم منح الحياة لشخص آخر فى طرف المدينة لا يعرفونه ولا يعرفهم.
عنوان الفيلم (سبعة باوند) أثار التساؤلات لأن كلمة (pounds) فى الإنجليزية قد تعنى (جنيهات) وقد تعنى (أرطال)! وبسؤاله قال ويل سميث إن العنوان يأتى من مسرحية شكسبير المشهورة (تاجر البندقية) التى طالب فيها التاجر بالدين الذى له أرطالا من جسد التاجر المدين! وهذا هو مفهوم بطل الفيلم عن رد الدين الذى عليه لسبعة ماتوا جسديًا، فوضع من جسده أرطالاً أو أعضاء يحيى بها سبعة أشخاص آخرين.
الغفران ليس دفع ديون.. الحياة ليست منحة بشرية حتى يمنحها أو يمنعها البشر.. والغفران للآخرين وللنفس له أبعاد أخرى أتمنى أن أجتهد للكتابة فيها فى مقال قادم.