الخميس 15 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
(البعيد والقريب)!

(البعيد والقريب)!


كان القطار يسير بين القرى الأمريكية فى تلك المنطقة الهادئة فى الميعاد ذاته يوميًا.. المشاهد هى هى تتكرر فى الساعة والدقيقة ذاتها بالنسبة للمهندس الذى يعمل على متن القطار.. فى الساعة الثانية بعد الظهر أو بعدها بدقائق يمر القطار بمنحنى وعلى مسافة من هذه البقعة يوجد هذا البيت الأبيض الجميل ذو النوافذ الخضراء والحديقة الغناء وأشجار البلوط الثلاث التى ترمى ظلها على جزء من المنزل..
اعتاد المهندس طوال أكثر من عشرين عاما أن يطلق صافرة القطار حين يمر بالمنزل الأبيض.. فتنظر سيدة المنزل اللطيفة من النافذة وتلوح بيدها للقطار.. عامًا تلو عام كبرت ابنتها وبعد أن كان يراها تحملها على يد وتلوح بالأخرى، صارت الفتاة تلوح للقطار مع أمها.. وصارت صافرة الساعة الثانية وانتظار السيدة أو الفتاة لتنظر من النافذة وتلوح بيدها من ثوابت الحياة اليومية لمهندس القطار.. ليس هذا فحسب، بل كانت لمحة التفاؤل اليومية بالنسبة له..
كان يفكر فى الحوادث التى تعرض لها فى حياته فى القطار والتى تحدث بين الحين والآخر حين يدهس القطار شخصًا يمر على القضبان ولا يمكن تفاديه.. وكان يقول لنفسه أن وجود هذا المنزل الأبيض بساكنتيه اللطيفتين شيء يدعو للإيمان بالحياة وبوجود الطيبين والطيبة فيها.. بل ويمحو آثار وجع الحوادث.. وقرر منذ فترة طويلة أنه حين يخرج على المعاش سيذهب لزيارة هذا المنزل ليخبر ساكنتيه كم كانتا بتلك الحركة البسيطة تمنحاه أملًا وإيمانًا وحبًا للحياة!!
هذه قصة (البعيد والقريب) للكاتب الأمريكى توماس وولف.. وهى قصة قصيرة تناقش موضوعًا أساسيًا فى الحياة الإنسانية.. ولو أنه صار مرتبطًا بالحداثة وما بعد الحداثة – أى بعصرنا الحالى – أكثر ما كان فى عصور ماضية.. ألا وهو موضوع المظهر والجوهر.. الشكل الخارجى والحقيقة الداخلية.. وهما غالبا على النقيض.. إذا قللنا من تشاؤمنا سنقول: أن قليلًا من الذين تقابلهم فى حياتك يتكون داخلهم من المكونات ذاتها التى تراها عينك حين تنظر عليهم من الخارج.. وإذا أكثرنا فى الواقعية سنقول: أن هناك من لا جوهر لهم أصلا.
ليس معنى هذا أن الناس من الخارج يبدون جيدين ومن الداخل هم ليسوا كذلك.. بالعكس هناك أمثلة متعددة لاختلاف المظهر عن الجوهر.. فالمتكبر خارجيًا قد يكون طيبًا من الداخل ويحمى نفسه الطيبة بالتعامل الفظ مع الآخر.. ومعسول الكلام قد يكون مظلم القلب.. ولن تجد شخصًا تقول له: (أنت نفسك) إلا فيما ندر.. هذا إن كنت محظوظًا حقًا.
المهم أن تجد أشخاصًا لهم جوهر!!! نعم فهناك من ينتمون إلى طائفة ال (2d) أى بُعدين فقط وليس ثلاثة أبعاد.. فقد صار كثيرون يهتمون بتنميط أنفسهم تبعًا للصيحات العالمية فى الشكل وأسلوب الحياة.. كيف يتكلمون؟ وكيف يبتسمون؟ وكيف يرسمون وجوههم؟ وكيف يمشون؟ وماذا يرتدون؟ وما هى تفاصيل أساليب الحياة الحديثة التى تجعلهم جديرين بأن أن ينتسبوا إلى العصر؟ حتى أفكارهم صارت سطحية منقولة لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.. هؤلاء المساكين ليس لهم (نفس، أو ذات)، ولا (جوهر).. بل لقد ذهبوا إلى أبعد من (البعيد) الذى فى قصة وولف..
ترى ماذا حدث عندما خرج المهندس للمعاش؟ هل تراجع عن فكرته، أم ذهب لزيارة المنزل الأبيض؟ كيف قابلته السيدة والفتاة؟ هل وجدهما أصلا؟ ماذا قال لهما وكيف شكرهما على كل تلك السنوات من الأمل فى الحياة؟ هل ذهب سعيدا من تلك الزيارة أم ندم عليها؟
للأسف ندم عليها.. ذهب المهندس للقرية وسار فى شوارعها ليصل إلى أطرافها حيث المنزل الأبيض.. وأثناء عبوره وجد أن المشاهد فى الشوارع تختلف كثيرا من قرب عنها من بُعد.. فقد كان يراها أكثر نظاما ونظافة وبهجة من نافذة القطار.. تردد قليلا فيما إذا كان ينبغى أن يتمم قصده أم يعود أدراجه.. ولكنه استمر فى سيره حتى وصل إلى المنزل.. قرع الباب وخرجت من وراءه سيدة عجوز مقطبة الجبين غير مرحبة به على الإطلاق وشعر بخطأ ما صنع إذ لم يكن حتى يستطيع أن يتفوه بما فى قلبه.. دعته السيدة وهى متوجسة منه وجاءت ابنتها التى لا تختلف عنها كثيرا ونظرتا له بكثير من الشك والتوجس.. لم يكن هذا هو الحلم الذى كان يراه (من بعيد) كانت التفاصيل (من قريب) مزعجة للغاية.. مختلفة تماما.. اعتذر وودعهما وخرج مطأطئ الرأس مغمومًا يائسًا فاقدًا لكل رجاء.. شاعرًا بالرياء.. يغطيه كثير من الحياء.