الجمعة 25 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
خيال المآتة.. وأدراج الرياح

خيال المآتة.. وأدراج الرياح


ليس من الغريب أن يغيب المعنى الحقيقى للكوميديا وخصائصها عن المتلقى.. لكن ما يثير الدهشة ويبعث على الحنق أن يجهل النقاد أنفسهم ذلك المعنى وتلك الخصائص..
والمتابع لكتابات النقاد المتخصصين حول فيلم «خيال مآتة» وهو آخر الأفلام المعروضة حاليًا للنجم «أحمد حلمى».. عن سيناريو «لعبدالرحيم كمال» وإخراج «خالد مرعى».. يكتشف ببساطة أن هذه الكتابات لم تخرج عن كونها مجرد انطباعات سطحية سريعة تنحصر فى إدانة «حلمى» أنه خذل الجمهور لندرة الضحكات فى الفيلم وتراجع مساحات «الإيفيهات» والقفشات واللزمات المرحة بهدف «الفرفشة» و«التهريج» و«الهزار» و«الملاسنات اللفظية».. والتدثر بعباءة الضحك للضحك.. أو الفن للفن.. بينما الحقيقة أن الكوميديا فى جوهرها هى فن يعتمد اعتمادًا أساسيًا على إعمال العقل وإثارة الجدل حول قضية اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية أو نفسية أو فكرية تميزًا لها عن التراجيديا التى تعتمد على الوجدان والعواطف التى تهز المشاعر..
والكوميديا تعتمد على وسيلتى «المفارقة» و«سوء التفاهم» بين الشخصيات الدرامية.. وبين الواقع المعاش.. وتبرز عيوب ومثالب ذلك الواقع وعوراته ونقائص البشر.. وصدام الأفكار والمعتقدات وتناقضها.. وتضاربها.. والتصدى للمسلمات الراسخة.. والسخرية من التقاليد البالية.. وإحداث هزة فى وعى المتفرج وضميره لتغيير الواقع والثورة عليه..
والحقيقة أن «أحمد حلمى» تميز من خلال المجموعة السابقة من أفلامه بمحاولة طموحة لتقديم سينما مختلفة ومغايرة لا سقف لجسارتها ولا حدود لرحابتها.. ولا نهاية لجنونها الخلاق ضد السائد وضد الإطارات والأشكال الجاهزة المتعارف عليها متجاوزًا التصور الآنى اللحظى الثابت إلى رحابة المتغير الغامض.. عابرًا إلحاحات الواقع الاجتماعى المستقر إلى رؤية عبثية للحياة والبشر والمعانى.. فتصبح رؤيته الفنية خليطًا من التجسيد الكاريكاتورى والفانتازيا.. والكوميديا الساخرة بمنهج اللا معقول الذى يتخطى الإضحاك بمعناه المحدود إلى خلق عالم متكامل خاص مليء بالخيالات والأحلام.. والتهويمات..
هذا الطموح الفكرى والفلسفى يمكننا أن نلمسه فى عدة أفلام مثل «ألف مبروك» الذى يناقش أزمة الوجود والعدم وعبثية الحياة والموت لشخصية تعيش يومًا تتعرض فيه لأحداث غريبة يحاصره فيها الموت مشكلًا كابوسًا يتكرر بأشكال مختلفة.. وهى تجربة بالغة الجرأة فى طرحها الملغز شكلًا ومضمونًا تتضمن لغة سينمائية متفردة.. وغير مألوفة فى السينما المصرية.. وفيلم «آسف على الإزعاج» الذى يغوص فى نوازع النفس الإنسانية من خلال تجسيد «حلمى» لشخصية شاب مريض بالفصام يعانى من عذابات اختلاط الرؤى.. ويكتشف من خلال مواجهة مع أمه أن والده الذى يحبه بجنون.. ويعتمد عليه فى كل تفاصيل حياته.. يتصوره حيًا.. إنه مات وما يحدث من مواقف وأحداث مرئية ما هى إلا نوبات مرضية من هلاوس سمعية وبصرية.. وفيلم «كده رضا» الذى يطرح الأوجه الثلاثة لتوائم يخدعون الناس بإقناعهم أنهم شخصية واحدة وقد سجلهم أبوهم بشهادة ميلاد واحدة.. ويتعلق ثلاثتهم بفتاه تستولى فى النهاية بمعاونة طبيب نفسى نصاب على أموالهم..
ويحاول الفيلم أن يطرح تعددا وغرابة النوازع والدوافع الإنسانية المختلفة التى يمكن أن تجتمع فى شخصية واحدة وإن بدت أنها لثلاث شخصيات.. بشكل مبتكر ومثير وجذاب.
وفى فيلمه الأخير.. يحاول «حلمى» أن يواصل رحلته الغرائبية باستخدام نفس مفرداته الأثيرة فى تعدد مستويات الرؤية من خلال تداخلات زمنية لمراحل عمرية مختلفة لشخصية واحدة.. يبرع براعة كبيرة فى تجسيدها والتعبير عن سلوكها المنحرف وحيلها وألعابها السحرية فى حياة مدهشة هى خليط من التوحش المادى والرغبات المحمومة.. والمغامرات الشيطانية.. لكن للأسف تطيش أسهمه وأدواته التى يستند إليها فى مغامراته السابقة بسبب ضعف السيناريو.. وتهافت البناء الدرامى.. وترهل الإيقاع وعدم القدرة على تصعيد الأحداث فى اتجاه ذروة درامية حتمية.. وانتفاء الصراع.. وهشاشة رسم الشخصيات المحيطة بالشخصية التى يجسدها «حلمى».. وبدا الفيلم وكأنه قاطرة ثقيلة تسير بالعرض فى سياق مرتبك.. وضبابية فى الرؤية أفسدت مضمونًا كان يمكن أن يثمر عن قيمة فكرية عميقة متصلة بالتساؤل الملغز حول ما هو المزيف.. وما هو الحقيقى فى حياتنا جيلًا بعد جيل..
أشفق على «حلمى» من المجهود الكبير الذى بذله فى أداء بديع بلا محتوى.. وفى مهارة بالغة لمخرج موهوب يستخدم أدواته من إضاءة وزوايا تصوير وحركة كاميرا وتكوين كادرات ببراعة.. ولكن ضاع كل ذلك كبيوت من رمال تذروها الرياح وذهب أدراج الرياح.