الجمعة 25 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الفصحى.. والظرفاء

الفصحى.. والظرفاء


فى كتابه الممتع هوامش المقريزى.. حكايات من «مصر».. يتحدث «أمير الحكى» الكاتب الصحفى الكبير الراحل «صلاح عيسى» عن زمن الفكاهة السعيد الذى عرف فيه الجيل الأسبق عدداً من الظرفاء الكبار الذين كانت لهم جلسات وندوات مشهورة فى فنون الأضاحيك والطرائف ذات الدلالات التى تحتوى على النقد الاجتماعى والسياسى والفكرى الساخر.. واللاذع.. وقد استرعى انتباهى مقال يعكس غيرة بعض هؤلاء الظرفاء على لغتنا العربية الجميلة.. واستعراضهم لجوانب من بلاغتها وتأثيرها على عقول ووجدان المتلقى.. وإصرارهم على تدعيم أواصرها.. وازدهار  فنونها المختلفة.. حتى إن أحدهم وهو الشيخ «حمزة فتح الله» عميد مفتشى اللغة العربية كان قد اتفق مع صديقه شاعر القطرين «خليل مطران» ألا يتحدثا إلا باللغة الفصحى أياً كانت الظروف والمواقف.. وعلى الرغم من هذا فقد أخذ كل منهما يشنع على الآخر.. فقال «خليل مطران» أنه ذهب لزيارة الشيخ «حمزة» فى منزله فسمع مطرباً يغنى أغنية مطلعها»:
«إن كان كدا.. ولا كدا.. لا صبر على كيد العدا».. فسأل مضيفه عن الأغنية.. فقال «الشيخ حمزة» بسرعة بديهة مؤكداً أن المطرب كان يغنى:
«إن كان كذا أو كذلك.. فلا أصبرن على كيد الأعداء»
ومن تشنيعات الدكتور «محجوب ثابت» عليهما أنهما ركبا يوماً ما ترام الرمل بالإسكندرية.. فلما جاء المحصل طلبا منه تذكرتين لمحطة «معسكر قيصر».. ولم يفهم المحصل بالطبع.. لكنهما أصرا على موقفهما فى عدم الحديث إلا باللغ العربية الفصحى.. وإضطرا إلى الهبوط من الترام.. والذهاب من «الرمل» إلى محطة «كامب شيزار» على الأقدام بسبب حبهما للغة العربية..
وكان معروفاً عن الدكتور ثابت حبه للقاف.. ونطقه لها بطريقة مفخمة مقلقلة.. وذكر «خليل مطران» أن الدكتور ذهب إلى مقهى شعبى وطلب أن يشرب قهوة.. ونطق القاف بطريقته.. فقال الجرسون صائحاً:
«واحد قهوة للبيه اللى بيقاقى عندك»..
وروى عنه أمير الشعراء «أحمد شوقى» أنه سأله يوماً عن مصير قضية له.. فقال: القضية دلوقتى فى الاستقناف»..
وظل ظرفاء الجيل السابق والأدباء منهم والمفكرون والشعراء حريصين حرصاً بالغاً على استخدام اللغة العربية الفصحى فى رصانه وتأنق وألفاظ جزلة.. ومحسنات بديعية توشى الفكرة وتزخرفها فتحتشد بكل بيان وبديع..
وفى مسرحية (لموليير مصر) «يعقوب صنوع» الذى أنشأ أول مسرح مصرى وقف ممثل وممثلة يؤديان موقفاً عاطفياً ساخناً.. والحقيقة أن الممثلة فى الواقع كانت تزدرى زميلها وتكرهه لأنه حاول أن يجبرها على حبه فرفضته.. لكن دورها فى المسرحية كان يقتضى أن تردد له عبارة – بالفصحى- هى «يانور عينى الذى يعشقك قلبى وتعبدك روحى».. ويظن الممثل أنها تقول له صدقاً فيهمس فى أذنها بعبارة يبارك فيها المسرح الذى جعلها تتنازل عن كبريائها وتغازله.. فتغضب الممثلة.. وتنفجر قائلة لجمهور المسرح بصوت عال – بالفصحى أيضاً- إن كلمات الحب التى وجهتها لهذا الفتى المغرور الغبى لا تعبر عن إحساسى فإنى أوثر العمى على حبه.. إن مؤلف الرواية هو الذى وضع هذه الكلمات على لسانى..
يقودنا ما سبق إلى مفارقة نلمسها فى تغير الأحوال فيما يتصل بالفصحى التى كانت سائدة وشائع فى لغة الخطاب الرسمى والثقافى.. وفى فنون الفكر والإبداع وفى حديث الظرفاء.. والمفارقة تتلخص فى الاتجاه نحو إهمال الكتابة الفصيحة.. فى القصة والرواية.. والمسرحية والشعر.. واستبدالها باللهجة العامية التى هى لهجة الكلام الطبيعية.. فمن الواجب أى تكون هى لغة الفن ولغة المسرح ولغة البيان.. وبالتالى يصبح لا حاجة لقواعد اللغة العربية والنحو والصرف.. والبلاغة من بيان وبديع وقافية وعروض..
وقد استنكر ذلك بعنف «عباس العقاد» فى مقال حاد له صب فيه جام غضبه على المؤلف المسرحى الشاب (فى ذلك الوقت 1962) الدكتور «رشاد رشدى» الذى كان أستاذاً للأدب الإنجليزى بكلية الآداب بجامعة القاهرة ثم رئيساً لأكاديمية الفنون.. وهو الذى بادر إلى تلك الدعوة بإشاعة العامية.. ودهش «العقاد» من جرأة «رشاد رشدى» فى التصريح بهذه الدعوة لأنه من المألوف فى كل دعوة جامعية أن تتحلى بشىء من وقار الحذلقة يخيف السامع من بعيد.. ثم يرفع عنه الخوف قليلاً كلما اقترب من بيت القصيد.. لكن «رشاد رشدى» لم يعتصم فى دعواه بشىء غير «العبط» فى رفع الكلفة.. والاستغناء عن التلميح..