
د. ايريني ثابت
لم تفهم لهجتى المصرية
لم أكن أتوقع أبدا أن لهجتى المصرية قد تكون عائقا فى تواصلى مع أى إنسان لغته الأولى هى اللغة العربية حتى قبل عدة أيام فقط.
لا أعرف أن أتحدث بعامية أخرى سوى العامية المصرية.. وبالرغم من أننى أفهم معظم ما كان يقوله الإخوة اللبنانيون بعاميتهم اللطيفة، لم أكن أتحدثها حين أجيبهم أو أتبادل معهم أطراف الحديث.. وعلى الجانب الآخر كانوا هم أيضا يفهموننى جيدا.
ظهرت المشكلة حين تقابلت مع ابنة أصدقائى والتى تبلغ من العمر اثنتى عشرة سنة!! لم تفهمنى «تارا» على الإطلاق.. ونظرت لى بعينيها الجميلتين الواسعتين باندهاش، وكأننى أتحدث لغة لم تصادفها هى من قبل!! وكلما سألتها سؤالا، حولت رأسها نحو أبيها كأنما ليترجم لها ما قلت.. وكان هو يترجم ثم تجيبنى هى باللهجة اللبنانية!!
كان الحل الوحيد لتحويل التواصل من الترجمة إلى حديث مباشر هو اللجوء للغة مشتركة بيننا ألا وهى اللغة الإنجليزية.. وقد كان.. وأكملنا الأمسية نتحدث الإنجليزية كلنا دون استثناء.. تاركين العربية بلهجاتها تماما..
فى اليوم التالى للقائى بتارا والعائلة، كنت أشارك فى مؤتمر يجمع أساتذة من دول عربية مختلفة.. ومعظمهم تزيد أعمارهم على الثلاثين عاما.. وأؤكد أنهم كانوا يفهمون لهجتى أكثر كثيرا مما كنت أفهم أنا لهجاتهم.. وبدا أمام عينى ذلك التفاوت الكبير بين الأجيال من الدول العربية المجاورة فى التواصل مع اللهجة المصرية.. ورأيت التغريب الذى أصاب لهجتنا وباعد بينها والأجيال الجديدة.
وفى «فلاش باك» قصير تذكرت أيضا قريبتى الشابة التى رزقت بابنتها «ناتالي» فى إحدى الدول العربية حيث تعيش وتعمل مع زوجها.. وكيف أن الطفلة الصغيرة التى ترعاها مربية من دول شرق آسيا لا تتحدث العربية المصرية إلا قليلا.. وتسود على مفرداتها اللغة الإنجليزية.. وتمثل التغريب الحقيقى فى تلك المنطقة المجاورة من العالم العربى الذى لا يتحدث العربية كثيرا وعلى وجه الخصوص أجياله الجديدة..
فجأة ودون مقدمات تذكرت ما يجمع بين ناتالى وتارا واللهجة المصرية.. لم أسعد كثيرا ولكن..«اللى باعنا خسر دلعنا» و«بتلعبى على مين الأسطورة والمعلم» هما ما جمع بين البنتين.. فناتالى الطفلة الصغيرة كانت تسأل أباها: «بابى.. هو اللى باعنا خسر إيه؟» وكانت تسمع الأغنية باستمتاع وبخاصة بعدما فهمت أنه خسر «دلعنا»!! أما تارا فكانت تتابع أغنية الأسطورة المعلم بفهم يكاد يكون فهما وحيدا لبعض العبارات العجيبة التى جاءت فى الأغنية باللهجة المصرية!! ولما سألتها: اشمعنى دى فاهماها؟ نظرت مرة أخرى لأبيها ليترجم لها ما سألتها عنه.. وعدت أنا لأسألها بالإنجليزية مرة أخرى!!
ليس صعبا أن نجد إجابة السؤال المحوري: لماذا لا تعرف الأجيال الجديدة اللهجة المصرية؟ لا يعرفونها لأنهم لا يتابعون مسلسلات مصرية ولا يشاهدون أفلاما مصرية ولا توجد فى الميديا والسوشيال ميديا مواد مصرية رائجة لتلك الأجيال تساهم فى تشكيل وعيهم عن مصر كما ساهمت من قبل فى تأصيل وجدان وفكر الأجيال الأقدم..
الأسئلة الأهم هي: هل صارت الأغانى هى المصدر الوحيد لنشر العامية المصرية؟ وهل هذه هى العامية المصرية أصلا؟ وهل هذه هى المفردات والأسلوب والمستوى والمحتوى الذى نريد أن يعبر عن مصريتنا ولهجتنا؟ ومتى سندرك أن تدنى الثقافة المحلية وخفوت الروح المصرية هما من أهم أسباب تراجعنا المحلى وانكشاف هذا التراجع على المستوى الإقليمى؟
نقطة أخيرة تستفزني: لماذا صار المصرى يتقمص لهجة وطريقة كلام تابعة للبلد الذى يعمل به وينسى اللغة العامية المصرية وكأنه يخلع جلده عنه؟ هذه ليست ملاحظة عنصرية.. إطلاقا.. فكما يعتز كل مواطن بلهجته أعتز أنا أيضا بلهجتى، وأحترم كل من حولى ممن يتحدثون لهجاتهم المحلية.. المشكلة كما سبق وقلنا هى خفوت الروح المصرية مع تدنى الثقافة المحلية.. صرنا لا نفتخر بكوننا مصريين!!
عزيزتيّ تارا وناتالى.. عندنا لهجة حلوة.. عذبة.. تحمل تاريخا طويلا لبلد ساحر لم يقتبس أهله سوى قليلا من كلمات أجنبية بالرغم من مرور اليونانيين والرومان والفرنسيين والإنجليز عليهم.. فقط احتفظت عاميتهم بمفردات لغتهم القبطية القديمة التى لا يتحدثها سواهم.. وقد جعلوا اللغة العربية سلسة رقيقة واضحة فى لهجتهم الخاصة العامة.. فهى خاصة لأنهم ألفوها وعامة لأن الجميع كانوا يفهمونها..
أخيرا أرجو أن تتذكر أن لهجتنا ليست مجرد: «اللى سابنا قفلنا بابنا»، ولا «قمة الغباء.. م الآخر».. فنحن نمشى «تاتا».. وندعو أبناءنا «نونو».. والمرأة عندنا «ست».. ولما نضحك «نكركر».. ولما نحب نغنى مع عبد الحليم بالعامية نقول «ده حبيبى شغل بالى.. زى الهوى ياحبيبى.. أيوه يا دنيا، أيوه كده.. عمرى ما شفتك، حلوة كده».. لهجتنا حلوة «أوى أوى أوى»..