
عاطف بشاى
أزمة ثقافة.. أم أزمة مجتمع؟!
تقول الحكاية التراثية الصينية القديمة إن موسيقارًا ملهمًا جلس فى حقل واسع منبسط غنى بالأعشاب فى مواجهة ثور عافت نفسه الطعام على الرغم من أن الموسيقار ظل لفترة طويلة يعزف له أرقى وأجمل الألحان العذبة.. محاولًا رصد مدى تأثير الموسيقى فى تغيير المزاج النفسى الذى ينعكس بالضرورة على سلوك وعمل وأداء الحيوان وغرائزه.. لكنه ما إن شرع فى استبدال الألحان بموسيقى تحاكى نقيق الضفادع ونباح الكلاب وخوار البقر حتى أسرع الثور فى التهام العشب بإقبال ونهم.
والحكاية ذات الدلالة والعمق تؤكد معنى أن الاعتياد على القبح يحيله إلى جمال.. وبالتالى فإن الفنون التى تتراجع هى بالضرورة والحتمية نتاج مجتمع متراجع.. تذكرت تلك الحكاية وأنا أقرأ مقالًا مهمًا للكاتب الكبير «خالد منتصر» نشر بجريدة الوطن بعنوان «خنق الأشجار بالألوان» الذى يتحدث فيه عن مشهد دلق جرادل البوية الملونة على جذوع أشجار «بورفؤاد» استعدادًا لاستقبال الوزراء باعتباره مشهدًا صادمًا ومؤذيًا للعيون.. ويعلن فى سخط وانفعال: «إذا كان المجلس المحلى يعتبر هذا التلوين المثير للغثيان تجميلًا للمدينة فهذا ليس تجميلًا.. لكنه تقبيح وتدمير وتشويه وتخريب.. ويتساءل فى دهشة واستنكار: «لماذا صرنا متآلفين مع القبح مخاصمين للجمال»..
والحقيقة أن مظاهر القبح التى تتنامى وتستشرى والتى سبق أن عبر عنها د.«يوسف إدريس» فى مقاله المهم بالأهرام «فقر الفكر.. وفكر الفقر» منذ أكثر من عشرين عامًا.. مبديًا دهشته البالغة من اعتياد سكان أحد شوارع حى شعبى بالقاهرة غارقًا فى مياه المجارى على القبح والقذارة والروائح الكريهة لدرجة أنهم يجلسون على مقاعد خارج مقهى بالشارع يلعبون الطاولة والدومينو باستغراق واستمتاع ولامبالاة.. بدلًا من- حسب تعبيره- أن ينقضوا على المسئول ليغرقوا رأسه فى هذه المياه القذرة.
أقول إن الاعتياد على مظاهر القبح تلك تمثل أزمة ثقافة كما أنها أزمة مجتمع.. وأن انحدار الذوق العام وتدنيه هو انعكاس لتدنى هذه الفنون والآداب فى مرحلة ردة حضارية نعيش فى كنفها.. فهبوط مستوى الأفلام السينمائية تؤثر تأثيرًا سلبيًا واضحًا على عقل ووجدان المتلقى.. والأغنية باعتبارها مظهرًا من مظاهر أزمة الثقافة تكشف عن أزمات أخرى متعددة فى الكلمة المكتوبة التى يسيطر عليها الابتذال والركاكة.. واللحن الردىء الصاخب والمزعج والذى يعكس ضوضاء وعشوائية ويفتقر إلى الابتكار والخيال.. والأصوات الضعيفة وغير الموهوبة.. وتماثيل الميادين التى كانت مثار فخرنا واعتزازنا بتفوقنا التاريخى فى فن النحت منذ قدماء المصريين وحتى الرواد العظام «مختار» و«السجينى» و«هجرس» والتى تئن وتنتحب الآن من فرط الأتربة والقاذورات التى تغطيها.. والتشويهات التى لحقت بها أثناء حكم الإخوان مثل تشويه تمثال أم كلثوم بل الإطاحة برأس تمثال «طه حسين» فى «المنيا».. وصولًا إلى تماثيل الميادين الرديئة التى نحتها مثالون من أجيال حديثه مثل تمثال «نجيب محفوظ» الذى يصوره النحات بشكل كاريكاتيرى قصيرًا هزيلًا.. ويمسك بعصا يتحسس بها الطريق وعلى وجهه نظارة سوداء تخفى عينيه وتظهره كضرير.. أما تمثال «طه حسين» فتبدو رأسه صغيرة كبيضة.. ويرتدى جلبابًا طويلًا ويظهر حافى القدمين كشحاذ.. وأما تمثال «أحمد شوقى» أمير الشعراء فهو جالس منحنيًا إلى الأمام بطريقه غريبة تظهره وكأنه يقضى حاجته..
وقد طالبت مرارًا وتكرارًا بتحطيم تلك التماثيل وإعادة تصميمها بواسطة فنانين موهوبين موهبة حقيقية.. والمجمع التشكيلى زاخر بهم.. ويوكل إليهم هذه المهمة لإبداع متميز يليق بتلك القامات العظيمة لهؤلاء الرواد.. دون جدوى.
ويبقى السؤال: هل ما سبق ذكره يدعو إلى التشاؤم والخوف.. وأن الأمل يتراجع فى مستقبل يتجاوز عثراتنا.. أم أن الأزمة مستحكمة.. والنهضة من جديد بات أمرًا مستبعدًا.. أو حلم تحقيقه بعيد المنال؟!
يرى الدكتور «محمد الجوهرى» أستاذ علم الاجتماع.. ومراجع الكتاب المهم «سوسيولوجيا الفن.. طريق للرؤية» لمؤلفيه «ديفيد أنفليز» و«جون هغسون».. أننا لا بد أن نتوقع من الصفوة دورًا جوهريًا فى دعم الثقافة ونقدها وتجديدها ونشرها.. فالثقافة فى كل العصور.. وفى أغلب المجتمعات كانت تتلقى دفعات قوية من الإبداع والتجديد على أيدى أبناء الصفوة الذين ساندوا فنون التصوير والباليه والموسيقى والأدب.. إلخ.
كذلك لا يسعنا إلا أن نأمل أن تنطلق المؤسسة التعليمية فى أداء دورها فى تربية الفكر والوجدان والانتماء.. ولا تقتصر على حشو الرؤوس بالتفاصيل والجزئيات.. وهو الأمر الذى نأمله من وسائل الاتصال الجماهيرى من الاضطلاع بدورها كأداة لتربية الشعب.. والارتفاع بمستوى الذوق العام تداوى به قصور المدرسة وأبواق منابر التخلف المتخلفة.