
محمد جمال الدين
القوى الناعمة.. المفترى عليها! !
على مدى عقود طويلة كانت مصر بقواها الناعمة هى الأكثر تأثيرًا على الساحة العربية وعلى الدول المحيطة بها، من خلال أدواتها فى الفنون والثقافة والإعلام وبقيمها الشعبية وتقدمها العلمى.. أدوات جميعها ساعدت فى إرساء دعائم نظامها السياسى، تم ذلك من خلال مساهمة فعالة من كواكب مصرية لامعة من رجال الأزهر والكنيسة، وكتاب وأدباء وعلماء ومفكرين ومثقفين ومدرسين وأطباء ومهندسين ومطربين وممثلين، جميعهم كان لهم دور فى جذب دول المنطقة والعالم الثالث لمصر، التى أصبحت مصدر إلهام لهذه الدول.
وبالطبع ساعد فى ذلك الإعلام المصرى الذى ازداد قوة بإطلاق التليفزيون العربى، الذى كان يعد من أهم أدوات القوى الناعمة فى هذا الوقت، لذلك لا أستغرب عندما يردد البعض الآن أن القوى الناعمة الحالية تعد من أهم وسائل مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، وهى القوى المتمثلة فى السينما والمسرح وجميع أنواع الفنون الأخرى كتب وأغانٍ وأدب ودراما وفن تشكيلى وحتى الرياضة وغيرها من الفنون الأخرى.
ومن دون مبالغة أصبحت هذه الجملة هى الأثيرة لدى النخبة المثقفة التى تعى وتدرك أهمية هذه القوى المتنوعة، وهى ذاتها الجملة التى تعلم حكومتنا مدى تأثيرها على الشباب، الذى استغلت بعض التيارات المتطرفة ظروفه المعيشية الصعبة، فقررت التسلل إليه من باب سد حاجته لضيق ذات اليد.
ولكن أين هى هذه القوى الناعمة الآن التى يتحدث عنها الجميع؟ وما الذى ستقدمه لشبابنا ولشباب الدول المحيطة بنا؟، وما الذى ستقدمه الدولة المصرية لدعمها؟، بعد أن بات من الواضح بل ومن المؤكد تراجع حجمها وتأثيرها، رغم اعتراف القاصى والدانى، بأنها صنعت مجد ومكانة مصر على مر العصور، فأغلب عناصرها وأدواتها إن لم يكن جلها أصابها بعض الخلل والاهتزاز بفعل أمور كثيرة، ويكفى أن نقول أن رجال الدين من الأزهر والكنيسة اللذين كانا يعدان من أهم عناصرها تجمد فكر البعض منهم عند مستوى أو مرحلة معينة ولم يعد بإمكانهما أن يتجاوزاها، رغم مطالبة الجميع وعلى رأسهم رئيس الجمهورية بضرورة تجديد الخطاب الدينى.
أما عن الثقافة والكتاب والأدباء فحدث ولا حرج، فقد اكتفى أغلبهم بالتنظير فقط، والقلة منهم يواجهون مشاكل كثيرة فى نشر إنتاجهم الفكرى أو الأدبى نتيجة لعدم توافر دور النشر، وكذلك منافذ عرض هذا الإنتاج، نتيجة لارتفاع أسعار الطباعة والورق بصورة كبيرة، ويكفى أن نقول أن «أجدعها» كتاب لا يطبع منه سوى 500 نسخة بالتمام والكمال بعد أن قل عدد من يقرأون أصلا، بعيدًا عن وجود من يطالبون بمحاكمة الأدباء من أصحاب الأفكار الرجعية، مما أدى إلى قتل بعضهم وتعرض البعض الآخر منهم لمحاولات الاعتداء عليهم، ما أصاب الثقافة والأدب والفكر، أصاب أيضا الإعلام وتركنا بأيدينا الريادة لغيرنا، حيث انهار التليفزيون المصرى ولم يعد أحد يشاهده، وأصبحت القنوات الفضائية هى صاحبة الصوت الأعلى من حيث البرامج أو المسلسلات فحققت نسب مشاهدة عالية، لن نتحدث هنا عن المسلسلات التركية والسورية التى تعتمد عليها الكثير من القنوات الفضائية، فى الوقت الذى اكتفت فيه مسلسلاتنا بتجسيد جل ما يسيء للمجتمع المصرى، عنف وقتل ومخدرات، ولم يعد هناك المسلسل الاجتماعى أو الكوميدى الذى يجذب المشاهد، الحال نفسه تعرضت له السينما المصرية التى اضمحل إنتاجها، نتيجة لارتفاع أجور الممثلين والفنيين والمواد الخام، وأضيف إليهم قلة عدد دور العرض بدرجة لم تشهدها مصر من قبل، لدرجة أن العاصمة لم تسلم من إغلاق العديد من دور العرض، فما بالك بمحافظات وجهى بحرى وقبلى، ويكفى أن الصعيد «نصف مصر» دور العرض السينمائى فيه لاتتعدى أصابع اليد الواحدة، وبعدها نعود ونتحدث عن التطرف والشباب، الذين عجزنا أن نقدم لهم يد المساعدة وتركنا الضعفاء منهم يقعون فريسة سهلة لشيوخ الفتنة والتطرف والجهل.
واقع المسرح أشد حرجًا وأكثر إيلامًا عن واقع السينما، فلم يعد هناك دور عرض مسرحى، ولم يعد هناك إنتاج أصلا، اللهم محاولات فردية من قبل البعض سرعان ما تختفى.. لأن أغلبهم وللأسف ليس له علاقة بالمسرح، لن أتحدث أيضًا عن الفن التشكيلى الذى قررنا وبقدرة قادر أيضًا أن نحمله ما لايطاق، حيث حرم علينا البعض نحت التماثيل، أو حتى النظر إليها لأنها تثير الغرائز، وما خرج منها حديثا إلى النور، ليست سوى مسخ مشوه ووضعت فى ميادين دون أن تراقبها أعين المتخصصين أو حتى تبدى اعتراضها عليها فجميعها تماثيل نحتت على عجل، أما رسم الموديل أو التصوير فهى أيضا فتنة والعياذ بالله فى نظر البعض، هذه هى بعض من كل لقوانا الناعمة التى لم نرعها ولم نحافظ عليها، وحان وقت دعمها بكل قوة، بعد أن غزانا بشكل أو بآخر فكر مستورد من الخارج، وضع جل همه وعقده فى محاولة القضاء علينا معتمدًا على قواه المالية، غافلا أن المال والتدخل فى شئون الغير لا يحقق الريادة قط.
لهذا تحديدًا علينا أن نستنهض «حكومة وشعبا» قوانا الناعمة مرة أخرى لأنها السند والمعين في بناء وتماسك الأمم .