
عاطف بشاى
من تيار إلى تيار
ما شئت لا ما شاءت الأقدار / فاحكم فأنت الواحد القهار/ وكأنما أنت النبى «محمد»/ وكأنما أنصارك الأنصار.. هذه أبيات شعر للشاعر الأندلسى «ابن هانى» فى مدح الخليفة تقارب بينه وبين الآلهة أو الرسل المبعوثين.
ومثلها يكتب الشاعر الكبير «صالح جودت».. قصائد عديدة يتغنى فيها بالملك «فاروق» ثم بـ«عبدالناصر» ثم «السادات».. منها ما كتبه فى مولد الملك: أى يوم سعدت مصر به/ كان فى طى الأمانى حلمًا / مولد الفاروق يوم بلغت/ راية الإسلام فيه القمما..
يقول الكاتب «مصطفى عبيد» الباحث والأديب فى كتابه «الجديد» هوامش التاريخ.. من دفاتر مصر المنسيّة – وهو كتاب شيّق فى سرده.. عميق فى محتواه الفكرى والتاريخى - إن الانحناء مر.. لكنه معتاد ومتكرر.. خاصة من أولئك الذين يكتبون ويبدعون منذ ولدت الدولة فى العالم.. والكلمة قد تكون كاشفة وواعية.. ولكنها قد تكون مستهدفة مصالح ذاتية.. وقراءة سريعة لنصوص الكتابات المصرية القديمة على المعابد تغمسك فى بحار من الدهشة حول تقديس المصريين القدامى لحكامهم وتأليههم لبعضهم، واللافت أن تلك الكتابات استمرت وتنوعت وتلونت بألوان عديدة بين الشعر والشكر والدعاء.. ومن يطالع أرشيف الصحافة المصرية فى العصر الحديث يذهل من كم التزلف والنفاق من شخوص تحولت من نظام إلى نظام ومن حاكم إلى آخر فى سلاسة ومهارة.
ومن الوقائع الطريفة التى أوردها المؤلف فى هذا السياق أن شركة الصابون الشهيرة «نابلسى شاهين» قامت بإطلاق اسم «نابلسى فاروق» على الصابون المنتج لديها فور توليه عرش البلاد رسميًا سنة 1937.. وبعد يومين من طرد الملك فى 26 يوليو 1952 نشرت الشركة إعلانًا فى الصحف تضمن اسم نابلسى فاروق شاهين وشطبت فيه على اسم «فاروق» ثم قالت: «فى الساعة السادسة مساء يوم 26 يوليو تم شطب اسم «فاروق» من تاريخ مصر إلى الأبد.. بعد أن أيقن الشعب والجيش الباسل بأن «فاروق» قد تغير وأصبح خطرًا على كيان مصر ومستقبلها ولذلك نحوه عن حكم مصر وشطبوا اسمه من كل مكان و«نابلسى شاهين» الذى كان قد قرن اسمه باسم «فاروق» يسعده اقتداء بالجيش وبدافع من وطنيته أن يقذف باسم «فاروق» وأن يحمل اسمه من اليوم : «نابلسى شاهين».
تذكرنى هذه الواقعة بأخرى أكثر طرافة صاحبها منتج ومخرج معروف كان قد أنتج وأخرج فيلمًا ميلودراميًا يتضمن قصة حب تافهة تدور أحداثها فى عهد الملك «فاروق» فى جو من الرقص والغناء والحفلات المخملية فى القصور الأرستقراطية الفخمة.. وتنتمى شخوصها إلى أولاد الذوات وأبناء البشوات والعاطلين بالوراثة.. وتصادف عرض الفيلم بعد قيام ثورة «23 يوليو 1952» فأسرع المنتج إلى إضافة عبارة بالبنط العريض على أفيشات الفيلم المعلقة فى الشوارع هى «الفيلم الاشتراكى الكبير»..
ويشير المؤلف أنه حينما تولت جماعة الإخوان المسلمين حكم مصر فى الفترة من يونيو «2012» إلى يوليو «2013» انقلب كثير من المثقفين والمبدعين (المباركين) إلى مصفقين ومبشرين بالعهد الجديد وبالرئيس الفذ.. ووصل الأمر برجل أعمال شهير عرف دومًا بمساندة الحزب الوطنى فى زمن مبارك إلى نشر صفحات كاملة فى الصحف تأييدًا «لمحمد مرسى» واستبشارًا بقدومه.. ووصل الأمر برجل آخر إلى فبركة قصة مفادها تسميته على اسم أحد مؤسسى جماعة الإخوان.. ولما خلع «محمد مرسى» بإرادة الشعب انقلب المصفقون إلى لاعبين.. والحقيقة إنه من قبل وصول الإخوان إلى سدة الحكم.. و«الصفوة» أو النخبة الأفاضل من المثقفين وقادة الرأى فى حال ذعر دائم.. فقد أفزعتهم الأغلبية التى حققها الإخوان فى برلمان «2005».. واستنكروا ونددوا ثم تجاوزوا وصمتوا.. وأفزعهم انتصار «نعم» المؤمنة ضد «لا» الكافرة فى غزوة الصناديق مع أنهم وافقوا وتحمسوا لوجود أحزاب ذات مرجعية دينية باسم الديمقراطية.. أفزعهم تزوير انتخابات الرئاسة والاستفتاء على الدستور وانقلاب الإخوان على الديمقراطية.. وجاهدوا جهادًا عظيمًا لإثبات أن الأغلبية لا تؤيدهم وأن وصولهم إلى الحكم تم برشاوى الزيت والسكر.. وقد أعجبنى بالمناسبة تصريح الروائى الكبير «بهاء طاهر» فى تحقيق صحفى فى هذا الصدد بتأكيده أنه إذا كان الإخوان يوزعون الزيت والسكر.. ويعترفون أنهم بذلك يخدمون المجتمع.. فمن الممكن للمعارضة أن تفعل ما فعله اليسار قديمًا بتفوقه بما يقدمه من خدمات مثل الحملات الطبية فقد أجاب ساخرًا عن سؤال هل «البرادعى» عليه أن يقدم مزيدًا من التضحيات ليتوغل فى قلوب الناس.. فأجاب إن أى زعيم لا يلتحم بالشارع ويظل بين الناس.. يتعلم منهم ويعلمهم فليس أمامه أى فرصة نجاح.. لذلك فحينما صرح «البرادعى» بأن على «مرسى» الذهاب إلى العشوائيات كان من الطبيعى أن نقول له «طيب ماتروح إنت».. «سعد زغلول» نفى وسجن فكانت النتيجة أن أصبح من صنع الشعب الذى التف حوله وهتف له.
و..... وكانت النهاية المخزية أن «عصر» هؤلاء النخبويون الذين يستبدلون قناعًا بقناع.. ويتحولون من تيار إلى تيار ومن مذهب إلى مذهب.. ومن موقف إلى عكسه.. عصروا الليمون.. وذهبوا جماعة إلى «مرسى» يؤيدونه ويباركونه.. ويقدمون له القرابين.. ويسلمون الدولة المدنية. إلى السلطة الدينية.