
عاطف بشاى
«الفتوى» وإيمان العجائز
أما وقد استشرت الفتاوى الشاذة وصارت واقعًا له مكانة كاسحة فى مجتمعنا يمثل خطرًا «داهمًا» يستلزم مواجهة حتمية يتضافر فيها المثقفون والمهتمون بالعلوم الاجتماعية والسيكولوجية.. والتنويريون عمومًا، لمحاصرة سطوة الذين يتاجرون بالدين ويسيئون إليه وإلى المجتمع يواصل تراجعه الحضارى بشكل مضطرد ومخيف..تحت تأثير تلك الفتاوى التى يرجع أسبابها النفسية «د.حيدر إبراهيم على» فى كتابه المهم «سوسيولوجية الفتوى» إلى رغبة الإنسان أسير الفتوى فى التنصل من مسئوليته عن الفعل لأن شخصًا آخر هو الذى أوصاه أو نصحه أو بين له الطريق الذى يجب عليه أن يسلكه فقد يعنى ذلك أن هذا الآخر يتحمل وزره بالوكالة.. ويتحمل تبعاته بالنيابة عنه.. والكتاب يضيء بصورة غير مباشرة بعض مظاهر الإنسان الذى تتحكم فيه الفتوى وتحدد معنى وجوده ومصيره.. حيث يترك مستقبله خلفه ويعيش حالة من التراجع التاريخى فى زمن فلكى يختلف عن زمنه الحضارى.
هو يخشى إذن الحياة المعاصرة المتجددة والمتغيرة ويخنقها فى نصوص ومسَلمات وتراث وعنعنات.. وكيف لا – والتعبير للمؤلف – وهو الذى يعيش «إيمان العجائز»..حيث إن الفتوى هى دافع مواز للواقع المعاش الذى من المفترض أن يقتحمه الإنسان ويعيشه بكل صعابه وتحدياته.. سعادته وبؤسه.. حلوه ومره.. ويخوض فيه رحلته بشجاعة وإرادة وحب وتفاعل.. وكفاح جدى من أجل تطوير حياته وتخطى عثراته.. لكن الارتكان إلى فتوى الآخرين الرجعية تحصره فى عالم ضيق – وإن كان بالنسبة له آمن ومطمئن – بعيدًا عن المغامرة.. يخشى فيه رعب الحرية لأنها مسئولية.
لذلك تراجع الإبداع والابتكار.. وتدهورت الحالة الديمقراطية والحريات العامة.. يقول «د. حيدر» فى ذلك: إن الاستكانة لنظم اجتماعية وعقلية أبوية تعتمد على الفتوى.. حيث يصبح الفقيه أو الداعية هو الأب الروحى.. ومصدر المعرفة.. وكاهن الحقيقة المطلقة - فى إشارة إلى السلطة الدينية المسيحية فى العصور الوسطى.
هذه الاستكانة تعنى تعطيلًا للعقل الجمعى.. والفردى.. وانقسام آلامه.. وشرخ وحدتها.. والدليل على ذلك ظهور قضايا عامة عديدة انقسم حولها المفتون والدعاة وتبعهم بقية الناس، مثل: دخول القوات الأجنبية أثناء حرب الخليج وغزو العراق.. والجدار العازل فى قطاع غزة.. والتصويت فى الانتخابات..موضوع النقاب.. الاستثمار والبنوك.. الموقف من عمل المرأة.. والاختلاط بين الرجال والنساء.. والختان.. والاغتصاب.. والإجهاض.. والعذرية.. وقيادة المرأة للسيارات.. إلخ..
والمؤسف فى الأمر أنه ليست هناك محاولات لاستعادة دور المتخصصين الذى احتله الفقهاء فى تفسير وتغيير المجتمع.. وقد ركز أو اختزل الفقهاء قضايا المجتمع والدنيا كلها فى المرأة باعتبارها أصل كل الشرور.. ومبعث الرذيلة.. والشيطان الذى يقود إلى التهلكة.. وتتكدس الكتب الصفراء على أرصفة الشوارع تحمل عناوين مثل.. «لمَ النساء من أهل النار؟» وبما أنها عورة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها.. فقد كان من الحتمى أن تختفى داخل خيمة سوداء.. ليتقلص مفهوم الشرف والكرامة ليقتصر على جسدها.. وكأن التفريط فى الأرض أهون من التفريط فى العرض أو أن سرقة المال العام.. أو الرشوة والفساد عمومًا «لا تمس الشرف ولا تمثل عيبًا».. لقد أصبح الانشغال بالمرأة – من وجهة نظر المؤلف – مفزعًا «لأنه يلهينا عن قضايا أخرى كبرى ويستنزف كثيرًا» من الوقت والجهد الفكرى بلا طائل..
أما شئون التحريم والتكفير فى الإبداع والفنون والآداب فالحقيقة أنها تستهدف روح الإنسان وتوقف تطلعه إلى آفاق حرة.. وكأن صاحب الفتوى أو الداعية يريد أن يقزم بعملية «حيونة» للإنسان.. أى يجعله مهتمًا فقط بما يأكل ويشرب ويرتدى.. غرائزى.. همجى.
إن الحرب التى تشن ضد الإبداع بواسطة الفتوى «هى معركة حياة أو موت داخل الفرد.. فالإنسان الذى لا تحركه الموسيقى والصوت الجميل أو لا تشبع روحه اللوحة الجيدة أو الرواية المتقنة أو القصيدة الرائعة لا يستحق صفة إنسان لأنه يصبح بلا ذوق ولا حدس ولا خيال».