
عاطف بشاى
نجيب محفوظ.. «بختم النسر»
يبدو الناقد النابغ «عصام زكريا» وكأنه عثر على ضالته المنشودة حينما أسندت إليه رئاسة مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة.. منذ عدة دورات.. فأداره بعقل ناقد أريب ومتمرس.. وروح فنان.. وحماس شاب.. وهمة مستنير صاحب رساله واضحة.. فوصل بالمهرجان هذا العام إلى مكانة عالية.. سانده فيها بالدعم والتشجيع.. والتعاون المثمر «د.خالد عبدالجليل» رئيس المجلس القومى للسينما.. فازدان المهرجان بفعاليات مهمة من أفلام وندوات وإصدارات غير مسبوقة.
أصدر المهرجان مجموعة من الكتب المهمة وسد نقصًا «كبيرًا» برصده لتاريخ النقد السينمائى «فى مصر» واحتفل بالناقد الكبير الراحل «سامى السلامونى» بكتاب أعتقد أنه الوحيد الصادر عن سيرته وكتاباته النقدية.. وأتوقف هنا فى هذه المقالة عند كتاب شيق وممتع وجديد فى محتواه ورؤيته هو «نجيب محفوظ.. بختم النسر» إعداد «طارق طاهر» والذى يقدم فيه بحثًا متميزًا، عن علاقة « نجيب محفوظ» «الأديب الكبير».. بـ«نجيب محفوظ» الموظف المخلص للوظيفة والتى قطعها فى رحلة طويلة تقترب من الـ«37 عامًا» حاول المعد أن يربط بينها وبين إبداعاته.. ورصد التأثيرات المتبادلة بينهما.. ويسرد جوانب مجهولة من هذا التاريخ موكدًا أن أوراق «محفوظ» الوظيفية لم تكن مثل أوراق الموظفين العاديين.. فقد غمس فيها مداد قلمه وفكره..فنحن أمام موظف من لغة الموظفين الإدارية.. وليس أدل على ذلك من أن حتى الإجازات التى تكتب بشكل نمطى نجد « محفوظ» يشبعها من روحه ومن لغته الأدبية.. أن هذه الأوراق الروتينية حولها «محفوظ» إلى حياة تنطق ببلاغتها ورصد الكثير من ملامح شخصيات عرفها فى دواوين الحكومة واستوحى منها شخصيات درامية فى أعماله الأدبية.
يقول طارق طاهر: نحن هنا لسنا أمام أوراق وظيفية بل تاريخ وطن بمؤسساته وشخصياته صاغتها وثائق لمبدع استثنائى استطاع أن يحول الوظيفة من عبء إلى حياة نقلها فى عدد من أروع أعماله.
ويطرح الكتاب سؤالًا مهمًا على لسان «رجاء النقاش»: هل عطلت الوظيفة «نجيب محفوظ»؟.. فجاءت الإجابة: عطلتنى وأفادتنى.. أخذت الكثير من وقتى الذى كان ممكنًا أن أخصصه للأدب.. ولكن من ناحية أخرى أتاحت لى فرصة التعرف على مواقف ونماذج بشرية عديدة كان لها أثر فيما كتبت.. كما أنها أعانتنى على مواجهة أعباء الحياة.
أما فيما يتصل بالوظيفة وتأثيرها على سلوك «نجيب محفوظ» ورؤيته للحياة وانعكاسها على عمله الإبداعى فيمكننا أن نقول إننا يمكننا التعرف على الكثير من الملامح المتصلة بذلك من رواياته ونظام عمله، فهو يؤكد أنه عرف مكانة الوظيفة فى مجتمعنا من خلال ممارسته لها.. فهى نظام بيروقراطى.. ونستطيع أن نجد ذلك جليًا فى روايته البديعة «حضرة المحترم» والتى شرفت بتحويلها إلى مسلسل تليفزيونى بطولة «أشرف عبد الباقى، وسمية الخشاب» فى التسعينيات.. فهو يقول على لسان البطل إن الوظيفة فى تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد والموظف المصرى أقدم موظف فى تاريخ الحضارة وأول تعاليم أخلاقية يحفظها التاريخ كانت وصايا من أب موظف متقاعد إلى ابن موظف ناشئ.. والوظيفة هى عمل مقدس وخدمة إنسانية وعبادة.
ويرى أن وظيفة صاحب السعادة والمدير العام والتى طمح إليها من خلال رحلة شاقة مريرة استغرقت «37 عامًا» يعبر فيها بانبهار أن مالك الحجرة الزرقاء هو مرجع الفتاوى والأوامر الإدارية وملهم التوجيهات الرشيدة للإدارة الحكيمة.. إنه يدعو الله أن يُتم نعمته عليه فيمكنه من القيام بممارسة السلطان وإعلاء شأنه فى الأرض.
ولعلنا نرى مظاهر ذلك الاحترام الكبير للدرجة الوظيفية منعكسًا فى سلوك «نجيب محفوظ» نفسه حينما عين مرءوسًا لـ«يحيى حقى» فى مصلحة الفنون حينما انتفض واقفًا.. وأسرع بارتداء الطربوش وإحكام وضع أزرار جاكت البدلة فى عراويها..والانحناء بتبجيل واحترام بالغ لـ«يحيى حقى» وهو يمر عليه فى مكتبه ملقيًا عليه تحية الصباح.. فدهش « يحيى حقى» وزجره مرددًا: «لا تفعل ذلك مرة أخرى».. إن مؤلف الثلاثية أهم مكانة وقيمة وأرفع شأنًا من كل مديري الحكومة.
وقد استفاد الأستاذ الأديب من الموظف العتيد أيضًا فى تقديسه التام للنظام العام والأصول المرعية.. والتقاليد السائدة.. واحترام الوقت والمواعيد والدقة والنمكية والحرص الشديد والاهتمام البالغ بالتفاصيل الدقيقة.
أردت تحويل قصة «أهل القمة» والتى سبق تقديمها فى فيلم سينمائى إلى مسلسل تليفزيونى من إنتاج قطاع الإنتاج.. فذهبت إليه فى منزله ومعى عقد التأليف وشيك بالأجر..فاعتذر عن التوقيع على العقد لحين قدرته على استخدام يده فى الكتابه لإصابتها بعجز من جراء الاعتداء الغادر عليه.. واستمهلنى إلى بداية العام الجديد ريثما يبرأ من الإعاقة.. بالإضافة إلى رغبته أن يدخل المبلغ فى ضرائب العام القادم.. فأوضحت له أن قطاع الإنتاج قرر إعفاءه من الضرائب وأنا أقصد أن جهة الإنتاج سوف تتحمل الضرائب نيابة عنه.. فإذا به ينفجر فى غضب جامح صارخًا: «هذا تدليس... ذلك غش أرفضه.. كيف تجرؤ..؟.. أنا أرفض هذا الخداع.. و.. عشرات الاتهامات المتلاحقة».
المهم أننى انتظرت حتى العام الجديد.. وتدخل الأستاذ ممدوح الليثى.. وأوضح له سلامة الموقف القانونى والضرائبى وتم التعاقد معه.. إنه «نجيب محفوظ» الأديب العظيم.. بختم النسر.