
عاطف بشاى
اقلب اليافطة
كنت أراجع مع ابنتى منهج النصوص فاستلفتتنى خطبة بديعة لـ «قيس بن ساعدة» ألقاها فى سوق عكاظ يقول فيها: «أيها الناس اسمعوا وعوا.. إنه من عاش مات.. ومن مات فات.. وكل ما هو آت آت.. ليل داج.. ونهار ساج.. ونجوم تزهر.. وبحار تزخر.. إن فى السماء لخبرًا.. وإن فى الأرض لعبرا.. فما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟!.. أرضوا بالمقام فأقاموا؟!.. أم تركوا هناك فناموا.. إلخ..
فشدنى ما بها من حكمة بليغة.. وبيان جميل وبديع خلاب.. وقلت لابنتى فى حمية وزهو وحماس: إن قيس بن ساعدة «هو خطيب العرب وحكيمهم.. وقد ضرب به المثل فى البلاغة والموعظة الحسنة.. وهو أول من قال فى خطبته: «أما بعد» كم هى رائعة عبارة: أما بعد تلك.. كلمتان فقط، ومع ذلك فهما مشحونتان بالكثير من المعانى.. والإيحاءات.. والدلالات فى إيجاز وتكثيف.. وبراعة فى السبك والصياغة.. فإذا بها تنفجر ضاحكة فى سخرية أربكتنى.. فلما سألتها ما الذى يضحكك؟!.. واجهتنى بصلف وعنجهية:
- يا سلام.. ده إيه العبقرية دى؟! الأخ «قيس» اخترع كلمة أما بعد؟!.. أما راجل «سكلبموخ» صحيح»
(عرفت فيما بعد أن كلمة «سكلمبوخ» تعنى أنه «عديم الفائدة» لا قيمة له.. أو بالعامية.. ملوش لازمة..)
وحضرتك فرحان بيه قوي؟!.. دا بيقول أى حاجة فى رغيف وصلى صلى (أدركت فيما بعد أن تلك العبارة تعنى دا بيقول أى كلام فارغ) ليه يعني؟!.. هو اخترع «الإنترنت والا الفمتو ثانية؟!».
أسقط فى يدى.. وأصابنى بالإحباط.. وأطرقت.. ثم ما لبثت أن اختلست إليها النظر، فلمحت فى عينيها تعبيرًا بالتشفى لهزيمتى السابقة فى النزال بين الأجيال.. وانتهزت الماكرة الفرصة بسرعة لتطلب منى أن أصطحبها إلى السينما لتشاهد فيلمًا كوميديًا شبابيًا..
وما إن بدأت تيترات الفيلم تتوالى.. حتى لاحظت موجات من الإعجاب والتجاوب تتواتر ثم تتزايد.. وتتصاعد.. مصحوبة بضحكات وتعليقات باسمة.. وهمهمات مرحة تعبر عن حبور وسعادة النظارة.. ومعظمهم من الأطفال والصبية والمراهقين والمراهقات.. بأحداث الفيلم.. وحينما التفت إلى ابنتى المستغرقة فى المتابعة بشغف ولهفة لأسألها عن سر اندماجها فى مواقف وأحداث تافهة ومفتعلة.. زجرتنى فى حسم وامتعاض مرددة: هش.
صمت فى كمد.. وتابعت صاغرًا مرغمًا شريطًا ساذجًا يفتقد إلى كل عناصر البناء الدرامى السليم.. شخصيات هشة لا أبعاد لها.. حوار ركيك فج.. أحداث سطحية تخاصم العقل.. وتعادى المنطق.. أجواء ومناظر.. وانتماءات بيئية لا تعكس الواقع المصرى الحقيقى.. ولا تنتمى إلى الحياة الاجتماعية التى يعيشها معظم شبابنا.. ناهيك عن الرخص والتدنى فى المحتوى.
فى طريق عودتنا إلى المنزل حاولت أن أفهم ابنتى أن الفيلم يمثل إفلاسًا فنيًا وفكريًا، حيث يعتمد على «تيمات» قديمة ومستهلكة لا جديد فيها.. ولا تشى بقيمة أو رسالة أو هدف يريد صانعوه أن يوصلوه إلينا وأن الشعار المرفوع بأن مثل هذه الأفلام تمثل رؤية الشباب الجديدة لواقعنا إنما هو من قبيل التشدق الذى يعكس خواء واضحًا.. فالحصار النهائى أنه فيلم مقاولات يرتدى «تى شيرت» الشباب ولكنه لا يقدم سوى سينما شائخة متهالكة الأوصال.
وما إن بدأت أستشهد لها بجملة عن مفهوم الضحك بمعناه العميق من كتاب «الضحك» لـ «برجسون» حتى قاطعتنى بتأفف وضيق مرددة:
- «انسى وخد البنسة».. «حنكوشة فى الأوبلية».. «واقلب اليافطة».. «وبيضة بيضة وفيها كتكوت».. «وكبر التت».. «الحكاية مش حابكة».. «استقرب».. «وقلب واقلب».. «وسقع وبيع».
(عرفت فيما بعد أن تلك العبارات تعنى الدعوة إلى الاستسهال والركاكة أو بالعامية انسى الموضوع وما تحبكهاش وعدى الليلة).
طريقك زراعى.. وقول «يا باسط تلاقيها هاصت».. و«إديها مية تديك طراوة» و«خليك (ON) ما تبقاش (OFF) معايا.. وبطل «أفورة» (أى لا تبالغ فى فهم وتفسير الأمور).. الحياة مش مترجمة (أى غير مفهومة ومبهمة، وعديمة الجدوى، حتى لو تمت الاستعانة بـ «أنيس عبيد» نفسه مترجم الأفلام الأجنبية.
ثم اندفعت تاركة إياى فاغرًا الفاه مشدوهًا.. أحدق فى اتجاهها ذاهلًا مبهوتًا..
ما إن استجمعت شتات نفسى المضطربة.. حتى عكفت بدأب على دراسة معنى تلك العبارات التى أصبحت من مستلزمات العصر، ومفردات لغته الجديدة.. إنه عصر انقلاب السلم القيمى.. وانهيار مفاهيم الزمن القديم، زمن الحلم والدهشة ، التأمل والحكمة والمعرفة.