ليالى «إيزيس وأوزيريس» فى شوارع أمريكا
انتهت قبل أيام رحلة 293 قطعة من الآثار المصرية الغارقة إلى ولاية مينسيوتا الأمريكية فى ثانى محطات معرض «أوزيريس - أسرار مصر الغارقة» والذى استمر 8 شهور بعد أن استمر لمدة 6 أشهر فى أولى محطاته فى الولايات المتحدة الأمريكية بمدينة سانت لويس، ويهدف المعرض إلى توضيح دور وأهمية رب الأرباب أوزيريس وزوجته إيزيس وابنه الرب حورس، وقصة التداخل المصرى اليونانى -الرومانى فى آثار مصر فى المرحلة اليونانية-الرومانية، وكذلك قصة اكتشاف هذه المدن الغارقة.
عدت مؤخرًا من الولايات المتحدة الأمريكية بعد رحلة قصيرة بعد أن ألقيت محاضرة عامة عن آثار مصر العظيمة لعدد كبير من الأمريكيين، ممثلاً لمكتبة الإسكندرية، وبدعوة كريمة من أصدقاء مكتبة الإسكندرية بولاية مينسيوتا الأمريكية، ولا أستطيع أن أصف حجم الحب والعشق لمصر وآثارها بين الجمهور الأمريكى فما قصة الآثار الغارقة المستخرجة من مياه مصر العظيمة التى لاتزال تبهر العالم منذ لحظة اكتشافها إلى الآن؟
يعود حلم اكتشاف آثار غارقة تحت الماء إلى أوائل القرن العشرين، منذ عام 1910، عندما كان مهندس الموانئ الفرنسى جونديه مكلفًا بإجراء توسعات فى ميناء الإسكندرية الغربى، حيث اكتشف منشآت تحت الماء تشبه أرصفة الموانئ غرب جزيرة فاروس. وفى عام 1933 لعبت الصدفة دورًا فى اكتشاف أول موقع للآثار الغارقة فى مصر، وذلك فى خليج أبى قير شرقى الإسكندرية، وكان مكتشفه طيارًا من السلاح البريطانى، وقد أبلغ الأمير عمر طوسون الذى كان معروفًا بحبه للآثار، وكان عضوًا بمجلس إدارة جمعية الآثار الملكية بالإسكندرية فى ذلك الوقت، وقد قام الأمير بتمويل عملية البحث والانتشال التى أخرجت لنا رأسًا من الرخام للإسكندر الأكبر محفوظة الآن بالمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية.
وفى الستينيات قام الغواص ومحب الآثار كامل أبوالسعادات بوضع خريطتين للآثار الغارقة، الأولى للميناء الشرقى، أما الثانية فكانت لخليج أبى قير. وقد شارك أيضًا مع القوات البحرية المصرية فى انتشال بعض مكتشفاته من موقع الفنار فى أبريل ونوفمبر من عام 1962 على التوالى. وانتهت هذه المحاولات بأكبر الأعمال فى منتصف الثمانينيات، حيث قامت البحرية الفرنسية بالتعاون مع هيئة الآثار بدراسة موقع غرق أسطول نابليون وانتشال بعض مخلفاته، كما تم تحديد موقع السفينة باتريوت.
ومع بداية التسعينيات توافدت البعثات الأجنبية المهتمة، وبدأت العمل فى البحث والتنقيب عن الآثار الغارقة فى مصر. ويعد موقع قلعة قايتباى من أهم مواقع تلك الآثار، وتبلغ مساحته 22500 متر مربع ويحتوى على أكثر من 3000 قطعة أثرية معمارية. وفى عام 1992 قام المعهد الأوروبى للآثار البحرية بأول عملية مسح شامل للتراث الأثرى بموقع الميناء الشرقى، واستطاعت البعثة تحقيق إنجاز علمى برسم خريطة طبوغرافية علمية دقيقة لمواقع الآثار الغارقة للميناء الشرقى، وقد أكدت أعمال المسح والحفائر وجود موانئ عديدة داخل الميناء الشرقى، كما تم الكشف عن مجموعة كبيرة من هذه الآثار فى مدينة هيرا كليون الغارقة والتى اكتُشفت عام 2000 بواسطة المستكشف الفرنسى فرانك جوديو، وكذلك فى منطقة شرق كانوبس التى اكتشفها جزئيًّا عمر طوسون عام 1934، ثم أعادت بعثة المعهد الأوروبى اكتشاف الموقع، أما أسطول نابليون الغارق فى قاع خليج أبى قير، فقد حدد أبو السعادات سبعة مواقع لسفن الأسطول قرب جزيرة نيلسون عام 1966. وانضمت له البعثة الفرنسية بونابرت بقيادة جاك دوما فى عام 1983، وقد قامت البعثة بمشاركة القوات البحرية الفرنسية والمصرية بانتشال مجموعة كبيرة من حطام الأسطول.
وقد كشف العمل تحت الماء عن موانئ ملكية خاصة بالقصور الملكية وبعض القطع الأثرية التى ترجع إلى النصوص الكلاسيكية القديمة، وكذلك مجموعة من العملات الذهبية التى ترجع للعصر الرومانى، وكذلك عثر فى خليج أبى قير على لوحة أساس من الذهب تماثل لوحات معبد السيرابيوم، وهى تتحدث عن قيام بطليموس الثالث بتأسيس معبد لهرقل، وهو من مادة الحجر الصلبة، وكذلك عثر على أحواض وأجزاء من باب برونزى وأدوات مائدة وأباريق إغريقية ومطاحن للحبوب وحلى وأدوات تجميل ،وكذلك عُثر على باب من الجرانيت على هيئة صرح مصرى يعتقد أنه باب مقبرة كليوباترا.
والآثار الغارقة هى من الإدارات المهمة بوزارة الآثار المصرية؛ لأنها ذات طبيعة فريدة فى عملها الذى ينحصر تحت مياه البحار والبحيرات ونهر النيل، حيث توجد الآثار التى غمرتها المياه إما بسبب غرق سفينة أو مبنى، أو تغير مسار النيل، أو عوامل النحر للشواطئ البحرية، أو سقوط قطع أثرية فى المياه.
ومن أهم المواقع التى تم العمل بها مواقع المدن الغارقة وتتمثل فى منطقة شرق كانوب ومدينة هيراكليوم. ويقع الميناء الشرقى فى المنطقة ما بين رأس السلسلة شرقًا وقلعة قايتباى غربًا، وكان الحى الملكى فى العصر البطلمى يقع فى منطقة الميناء الشرقى. وبدأ الاهتمام بالموقع من الناحية الأثرية عام 1961م عندما اكتشف به كامل أبوالسعادات تمثالاً ضخمًا لسيدة ترتدى الزى المميز للإلهة إيزيس وقطعًا أثرية أخرى، كما ظهرت بهذه المنطقة أرصفة حجرية، وفى عام 1992م قامت بعثة المعهد الأوروبى للآثار الغارقة بعمل مسح طبوغرافى للميناء الشرقى أسفر عن اكتشاف جزيرة أنتيرودوس واللسان المعروف بشبه جزيرة التيمونيوم، حيث عُثر على بقايا مبانٍ من المرجح أن تكون لمسرح ومعبد الإله بوسيدون، كما كشفت البعثة عن عناصر أثرية ومعمارية مختلفة مثل تماثيل أبوالهول، وحطام سفينة غارقة ترجع إلى العصر الرومانى.
وفى عام 1962م، عمل كامل أبوالسعادات بالاشتراك مع القوات البحرية المصرية على انتشال قطع أثرية من موقع قلعة قايتباى، الذى يقع عند حد جزيرة فاروس الشرقى فى مواجهة قلعة قايتباى من الجهة الشرقية. وبداية من عام 1994م، عمل مركز الدراسات السكندرية فى هذا الموقع، حيث عثر على الآثار التى أحاطت بعمود السوارى وأُلقيت فى الميناء عام 1176م فى عهد صلاح الدين الأيوبى لتعيق الغزو الصليبى القادم من قبرص، كما يحوى الموقع ما أسقطه الزلزال من الفنار وجزيرته، حيث تصطف بقاياه التى تزيد على 20 طنًّا فى خط واحد يتجه إلى الشمال. وعثُر فى هذا الموقع على أكثر من 3000 قطعة أثرية معمارية ومن ضمن القطع الأثرية الضخمة التى وُجدت فى الموقع 7 تماثيل لأبوالهول، كما عُثر على حطام ثلاث سفن ترجع إلى ما بين القرنين الثالث ق.م. والسابع الميلادى.
تمثل منطقة المعمورة خليجًا مفتوحًا ومحاطًا بالعديد من الجزر، وهو الخليج البحرى الواقع إلى الشرق بين الخليج المكون لحدائق المنتزه وإلى الغرب من خليج أبى قير. وتعمل بعثة الآثار الغارقة المصرية فى هذا الموقع منذ عام 1999م. وقد أسفرت أعمال المسح والتنقيب عن العثور على كسرات فخارية وبعض الأمفورات مختلفة الطرز، وهو ما يرجِّح ارتباطها بحطام سفن غارقة، فقد عُثر على بقايا سفينة رومانية غارقة فى وسط الخليج لاتزال تظهر منها بعض العناصر الأثرية فى القاع إلى الآن، وأحواض مستقيمة الأضلاع، منحوتة فى الصخر، يرجَّح أنها كانت تُستخدم فى تربية الأسماك، كما ظهرت أجزاء من أرصفة غارقة لميناء صغير. وعُثر أيضًا على بقايا محجر قديم لاستخراج الحجر الجيرى أصفر اللون، الذى كان يُستخدم فى بناء الأرصفة والأحواض القديمة الموجودة فى الخليج التى ترجع إلى العصر الرومانى.
وتم اكتشاف مدينة هراكليوم التى شُيدت فى العصر البطلمى (320 30 ق.م) والبطالمة هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم نسبة إلى الإله هرقل، وما تم اكتشافه من المدينة الغارقة هو مساحة تقدر بـ 1000 فى 800 متر من مساحتها، وتشتمل على معبد ضخم للإله هرقل آمون، فالبطالمة أنشأوا معبدًا للإله آمون، ولكن بصورة بطلمية. إن أهمية اكتشاف هذه المدينة ترجع إلى مجموعة التماثيل التى تم العثور عليها داخل معبد المدينة ومن بينها تمثال كامل من الجرانيت يبلغ ارتفاعه 5.5 متر للإله حابى، كما تم العثور على تمثال للإلهة إيزيس ورأس تمثال من الجرانيت وتمثال لملكة غير معروفة الاسم.
كما تم الكشف عن مجموعة من أدوات الاستخدام اليومى كالأوانى والقدور ومجموعة من الحلى الذهبية، وخواتم وسلاسل وعملات ذهبية مهمة وبعضها عبارة عن عملات فينيقية نادرة من الصعب العثور عليها، والعملات الأخرى بطلمية، بالإضافة إلى العثور على لوحتين حجريتين الأولى طولها 6.1 متر والثانية لوحة تشبه لوحة بالمتحف المصرى من الأسرة 30 بها نص يتضمن تخصيص جزء من المال كضرائب لصالح معبد الإله هرقل.
وكانت البعثة الفرنسية المصرية التى تعمل فى البحث عن الآثار الغارقة بدأت اكتشافاتها بمجموعة من أسطول نابليون عام 1996، بينما كان من اكتشافاتهم العثور على مدينة مينوتس فى قاع البحر المتوسط على مساحة 2 كيلومتر من شاطئ مدينة أبى قير أيضًا. وتم العثور بالقرب من الميناء على لوحة رائعة من الجرانيت الأسود وهى نسخة كاملة من لوحة نقراطيس الشهيرة والمحفوظة حاليًا بالمتحف المصرى. ولوحة نقراطيس تشير إلى قرار الفرعون نختنبو الأول (378 363 ق. م) بأن تؤول نسبة العشر من الضرائب المفروضة على أنشطة وتجارة الإغريق إلى خزانة معبد الإلهة نيت.
أما عن التماثيل فقد نجحت البعثة فى استخراج ثلاثة تماثيل كانت مغطاة بالحشف البحرى، وذلك بالقرب من بعض الجدران الكبيرة بالمكان وتمثل هذه التماثيل أحد الفراعنة، والآخر لملكة، أما الثالث فهو حالة نادرة من نوعها، حيث يمثل المعبود حابى إله النيل والفيضان، كما عثر على ناووس ضخم من قطعة واحدة من حجر الجرانيت الوردى يرجع للعصر البطلمى بالقرب من هذه التماثيل.
إن هذه الاكتشافات بما فيها اللوحات والتماثيل الكبيرة هى امتداد تاريخى للمدينة إلى العصر الفرعونى خاصة العصر المتأخر، ولاتزال الحفائر تحت بحار ونهر مصر العظيمة تمدنا بالكثير من الآثار المصرية المدهشة التى لا تزال تسحر العالم كله أبد الآبدين. إن آثار مصر الغارقة هى مستقبل الآثار فى مصر فى الفترة القادمة.
*مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية