
محمد جمال الدين
وكشفت «برايتون» المستور !!
فى روايته الأولى «حدث فى برايتون» وضع الدكتور سامح فوزى جل همة فى البحث عن الذات المفقودة فى مجتمعاتنا الشرقية حال مقارنتها بمجتمعات الغرب، وهذا تحديدا ما عبر عنه فى الإهداء الذى يتصدر صفحات الرواية «إلى من يجدد ذهنه، يتمرد على ذاته العميقة، ويفتح نوافذ شخصيته، ويسمح بتشكيل ذات جديدة داخله».
فبطلة الرواية «منه الله محمد» باحثة مجتهدة، ولكن شاء حظها ألا تعمل فى سلك التدريس فى الجامعة، لأن مثل هذه الوظائف محفوظة لأصحاب المقام الرفيع من السادة أبناء الأساتذة، فرضيت أن تعمل كباحثة فى الجامعة التى رفضتها أستاذة، ولكن قبلتها كموظفة، وهذا يأتى استكمالا لسوء حظها الذى يلازمها منذ ولادتها، حيث نشأت فى إحدى قرى الصعيد المنسى عن قصد وتعمد، قرية تفتقد الخدمات العامة، وتنكمش فيها فرص الحياة الاقتصادية، تعيش فى أسرة يكاد يكفى الأب احتياجاتها الأساسية، لم تعرف طوال حياتها الدراسية سوى سياسة الفستان الواحد، ولم تتغير هذه السياسة ألا عند التحاقها بالعمل فى الجامعة، رغباتها بسيطة وأحلامها متواضعة وثقافتها متوسطة وقراءتها العامة محدودة، بوجه عام هى لا تصلح سوى أن تكون موظفة أكثر من كونها باحثة، بحكم النشأة والمجتمع والفقر الذى يحاصرها ويحاصر أسرتها فى مجتمع الصعيد المغلق بالضبة والمفتاح على من فى مستواها، تنتظر العريس الذى قد لا يكون حاصلا على مؤهل دراسى عالٍ، ولكنه عمل فى بلاد الخليج أو هاجر بطريقة غير شرعية إلى أوروبا، ثم عاد إلى قريته ليبنى منزلا على النمط الحديث، نمط لم تعتده فتيات القرية أو يرين مثله حين يحل عليهن قطار الزواج، وهو بالمناسبة الأمل المنشود لوالد ووالدة «منة الله» التى يفتخران بآدبها وتدينها والتزامها الخلقى، فهى منذ الصغر حريصة على الصلاة والصوم، ارتدت الحجاب مبكرا مثل أغلب بنات جيلها، تعرف حدود الدين وشرور الإثم، وبفضل تفوقها وبمساعدة من بعض أساتذتها تحصل «منه الله» على منحة دراسية للحصول على الماجستير والدكتوراه من جامعة «سأسكس» بمدينة برايتون فى جنوب بريطانيا، قبل السفر قال لها أستاذها الذى ساهم فى فتح مجال الدراسة لها فى الخارج: «سوف تسافرين بإذن الله إلى الجامعة فى بريطانيا، أود أن تعرفى شيئا مهما، الدراسة ليست كلها تعليم، فيها كثير من الثقافة، حاولى أن تتعلمى طريقة تفكير أفضل فى الحياة»، وقتها لم تستوعب مغزى الحديث، ثم عاد وقال: «سوف تجدين حياة غير تلك التى تعرفينها هنا، المجتمع غير المجتمع والناس غير الناس، حاولى أن تفهمى المجتمع الجديد، لأن الحياة دائما طريقة أكثر منها أى شىء آخر».. كلام يبدو لها مثل أسطوانة كمبيوتر مضغوطة.
لم تشغل بالها كثيرا بالتفكير فيه، سوى بعد سفرها وبداية رحلة البحث عن ذاتها التى افتقدتها فى بلدها بحكم النشأة والعادات والتقاليد البالية التى ابتلى بها مجتمعنا، والتى ساهم بترسيخها فى عقولنا سياسة تعليمية تعتمد على الحفظ والتلقين، لاغية بذلك أى منهج خاص بالبحث والاجتهاد والتطور، مدمرة فى طريقها ذواتنا التى ألقيناها عن طيب خاطر فى الجب منذ سنين طويلة.
هذا ما اكتشفته بطلة رواية الدكتور سامح فوزى عند دراستها فى الجامعة البريطانية، وتمردت عليه عندما اقتربت من زملاء السكن التى رفضت الحديث معهن فى لقائها الأول بهن، وكانت تخجل من رؤيتهن لملابسها الداخلية، مثلما خجلت من رؤية شاب يقبل فتاة فى السكن المقابل لها، حتى استطاعت وبمساعدة من إحدى زميلات السكن فى إقناعها من الخروج من هذه الشرنقة التى وضعت نفسها بداخلها دون قصد أو إرادة منها، لتبدأ رحلتها فى التمرد على الذات العميقة بداخلها، بعد أن اتضح لها خطأ نمط تربيتها، وعرفت أن الشعور بالخوف الذى تملك حياتها أوقعها فى فخ العزلة ومواجهة الحياة التى اعتادت عليها فى قريتها، والتى لم تشعرها قط بالإحساس بالسعادة والحرية وراحة البال أمر لا يفيدها أو يفيد غيرها من البشر، وهو أيضا ما جعلها تتمرد على زواجها من رجل أراد استغلالها وكبت حريتها ولم ير فيها سوى كونها أنثى يختزلها فى جسد، متوهما أن بالإمكان التحكم فيه وقتما يشاء بحثا عن غرائزه، وقتها فقط عرفت مغزى كلام أستاذها بأن الحياة ليست دائما تعليما، رغم تمسكها بقيمها وتدينها مع تسليمها بحق الآخرين فى الحياة بطريقتهم، ولكنها فضلت هذه الثقافة وهذه الطريقة لتعيش حياة أفضل ورؤية أشمل، مستمتعة وباحثة عن مفاتن الدنيا المفقودة فى مجتمعاتنا، وهو المنهج الجديد الذى ارتضته «منة الله» لحياتها عقب عودتها إلى مصر والذى تتمنى تحقيقه لابنتها فى مكان تصنعه هى وليس أحدا آخر، حتى ولو كان هذا المكان فى برايتون.