
عاطف بشاى
سيد قطب.. مرة أخرى
ليس هناك فى كشوفات الشخصيات الإخوانية فى دفتر الوطن أفذاذ أو عظماء أو عباقرة أو نوابغ أو موهوبون بين جميع أنماط البشرية فى تنوعها الكبير عبر التاريخ الإنسانى.. حتى إن «سيد قطب» الأديب الشهيد كما كان يسميه الإخوان فى كتاباتهم، وهى التسمية التى يمكن من خلالها ما تردد أن أديبنا الكبير «نجيب محفوظ» كان على صلة به.. ويصفها «نجيب بأنها صلة أدبية أكثر منها شخصية أو إنسانية». وقد أوضح الناقد الكبير الراحل «رجاء النقاش» أن «سيد قطب» كان أول ناقد أدبى انتبه إلى أعماله وكتب عنها فى الأربعينيات من القرن الماضى وتعرف عليه فى ذلك الوقت، حيث كان يأتى بانتظام للجلوس مع مجموعة من الأدباء والنقاد أصدقاء «نجيب محفوظ» فى كازينو أوبرا.. كما أنه كان من تلاميذ الكاتب الجبار «عباس العقاد» كما كان يسميه «سعد زغلول»، وكان «قطب» يواظب على حضور ندوات «العقاد» الأسبوعية ومتأثرًا بها فى كتاباته.. و«العقاد» هو الذى توسط له لدى «النقراشى» باشا لإرساله فى بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام (1947).. وقد أوفدته وزارة المعارف إلى «أمريكا» للاطلاع على مناهج التعليم ونظمه.
وقبل سفره، ومنذ بداية الأربعينيات، كان يمارس الكتابة النقدية، وضمن مجموعة مقالات جمعت فى كتاب بعنوان «المجتمع المصرى.. جذوره وآفاقه» أشرت إليه فى مقالى السابق عنه، كتب «قطب» مقالًا عن «الفرح الإنسانى» ناعيًا حظنا نحن المصريين من الحياة الحقيقية لأن مباهجنا الفردية والاجتماعية شحيحة، ويؤكد حاجتنا إلى هذا الفرح الذى يعكس سلامة الفطرة وصحة الشعور وهما أكبر مقومات الحياة، فالفرح الإنسانى ظاهرة نفسية وعقلية تقابل فى الحيوان ظاهرة القفز والوثب، وفى الطير ظاهرة الغناء، وفى النبات ظاهرة التفتح والازدهار، وهو يفرق بين التهريج والمجون وبين الفرح الإنسانى الراقى بمنهج يقترب من منهج نقاد الأدب والفن فى التفرقة بين الضحك الرخيص الذى يحتوى على ابتذال وسطحية وبذاءة وبين الكوميديا الحقيقية القائمة على الوعى والعقل، وسمو الأفكار، فالتهريج ينبع من حياتنا وحياة الشعوب والأفراد من منبع الضغط على اختلاف أنواعه لا من منبع الحرية، فهو ثمرة الكبت لا الطَلاقة، وينبعث المجون سخطًا على الحياة، لا رضى عنها، واستهانة بها لا إعزازًا بقيمتها وإصغارًا لشأن الكون لا إكبارًا لما فيه من متعة وجمال.
ويستطرد فى حماس وانفعال متسائلًا: ليسأل كل منا نفسه.. كم مرة نضحك فى اليوم أو الأسبوع أو الشهر ضحكة مشرقة مبعثها الحيوية الجسمية والشعور براحة البدن واكتفائه وخلوه من العوائق والمنغصات! ثم تعالوا ندخل البيت المصرى فى المدينة فماذا نحن واجدون فيه من مباهج الحياة المنزلية، ومن مظاهر المرح المشتركة، بل من مظاهر المشاركة الوجدانية فى أبسط صورها بين أفراد المنزل الواحد، إننا نقضى أعيادنا على المقاهى نتطلع فى شبه ذهول للرائحات والغاديات، والعيد القومى الوحيد الذى نحاول أن نبتهج به هو عيد الربيع (شم النسيم) نهبط فيه إلى الاستهتار الماجن لأننا لم نعرف بعد كيف نفرح فرح الآدميين.
ظل «سيد قطب» عدة أعوام فى أمريكا وعاد عام (1954) وحينما جرت محاولة اغتيال «جمال عبدالناصر» فى ميدان المنشية بالإسكندرية (28 أكتوبر 1954) تم القبض عليه، ووجهت له تهمة كتابة المنشورات السرية للإخوان منذ الثورة ومنها منشور بعنوان «الإخوان فى المعركة» ثم أفرج عنه بعفو صحى عام (1964)، وعقب خروجه من السجن ذهب «نجيب محفوظ» لزيارته حيث فوجئ بالتحول الكبير فى شخصيته وأفكاره، حيث أصبح إنسانًا حاد الفكر، متطرف الرأى يرى أن المجتمع عاد إلى الجاهلية الأولى، وأنه مجتمع كافر لابد من تقويمه بتطبيق شرع الله انطلاقاً من فكرة الحاكمية، وقيل إن هذا التحول قد أصابه أثناء وجوده بالبعثة، عندما اغتيل «حسن البنا» مؤسس جماعة الإخوان المسلمين بتدبير البوليس السياسى، حيث أطلق عليه الرصاص وهو خارج من جمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس وعقد «سيد قطب» وقتها العزم على أن يحمل المشعل من بعد «البنا» ليواصل رسالته المروعة.
هذا هو «سيد قطب» الأربعينيات الذى كتب «عن الفرح الإنسانى» و«مظاهر المرح» و«مباهج الحياة» والذى تحول فى الخمسينيات والستينيات إلى زعيم التكفير، والإرهاب والجهامة وكراهية وازدراء المجتمع، والعنف وإشاعة الكآبة وتحريم البهجة.
مفارقة...