
عاطف بشاى
صلاة «موج البحر»
فى عدد من مجلة «صباح الخير» بتاريخ (25) أبريل (1974) فى باب «لغة القلب» الذى كان يحرره الأديب الرائع «أحمد هاشم الشريف» بعثت إليه قارئة سكندرية بمشكلتها طالبة النصيحة.. وتتلخص المشكلة فى أنها عاشقة للبحر: «أول ما الصيف يهل تلاقينى غاطسة فى البحر.. وأتفرج على جمال الميه والموج الأبيض وهو بيطلع لغاية السور بتاع البحر.. والشمس الجميلة لما تيجى تغرب.. لكنى مسلمة.. متدينة.. أهوى سماع القرآن.. وباصلى كنت مكسوفة أقولك إنى باصلى فى ال.......... .. لأنى بأبقى خايفة ربنا يغضب منى لما أصلى وبعدين أقلع هدومى وألبس المايوه وأغطس فى البحر.. هاتقولى خلاص اتفرجى على البحر من بعيد لبعيد، لا يمكن.. ماقدرش أبقى جنب البحر وأبعد عنه.. دبرنى وقوللى إزاى أوفق بين طاعة الله.. ووسوسة الأمواج التى تزن فى أذنى كأحلى أنغام سمعتها فى حياتى..
رد عليها الشريف ...... : من قال إنك عارية عندما تسبحين فى البحر؟!.. إن البحر هو قمة الطهارة وكمال الاحتشام.. وعندما تغطيك الأمواج وتلتف حول جسمك فأنت ترتدين ثوب السمكة وثوب أعشاب البحر الذى يعكس زرقة الماء وبياض السحب وحمرة الشفق وكل ما فى الطبيعة من ألوان.. وكل ما على الشاطئ من شعاع الشمس وأنهار الزبد.. فأنت قريبة من الله فى الصيف أكثر من قربك فى الشتاء وأنت تصلين بين الجدران وحبك للبحر هو حبك لله.. فالله يتجلى فى لمعان النجمة وفى اكتمال القمر.. وفى ضوء الفجر وفى طلوع الشمس وغروبها.. لأن هذه هى آيات الله وطريق الوصول إليه.. تأملى البحر فى عمقه وفى اتساعه .. تأمليه وهو يغسل الشاطئ آلاف المرات كأنه محراب صلاة تأملى وداعة الأمواج عند الغروب وثورتها على الظلام أثناء الليل ورفضته الفرحة عند الفجر.. وعندئذ تدركين أنه الله يتجلى فى البحر.
ويذهب «الشريف» إلى أبعد من ذلك حينما يرى أن الصلاة ليست مجرد تأمل بقدر ما هى تصور يربط بين التأملات فى الطبيعة وحياتنا فى المجتمع.. ويدلل على ذلك بأن النبى (صلى الله عليه وسلم) عندما بدأ صلاته.. قضى خمس سنوات فى البادية وهو طفل يتأمل الطبيعة وما فيها من جمال ونظام.. وعاد إلى مجتمع «مكة» ليتأمل ما فيه من فساد واختلال فى العلاقات.. ولجأ إلى غار (حراء) ليربط بين تأملاته فى الطبيعة وتأملاته فى المجتمع ويكشف عن التناقض بينهما «النظام فى الطبيعة.. والخلل فى المجتمع».. هذا الربط بين الخيال والواقع هو التصور.. وهو الصلاة.. بل إنه ذهب فى صلاته إلى أبعد من هذا.. إنه يتأمل أحوال العالم الذى يعيش فيه وصراعات القوى اندحار جيش (أبرهة) الذى بعث به الرومان فى عام (الفيل) وهزيمة الفرس أمام العرب فى موقعة (ذى قار) وخرج من هذا التأمل بتصور لدور العرب.. القوى الجديدة التى بدأت فى الظهور.. إنه من خلال تأملاته فى الطبيعة وفى المجتمع وفى الإنسان استطاع أن يكشف ما فيها من علاقات متصارعة واستطاع أن يربط بينها فى تصور شامل.. هذا التصور الشامل هو الصلاة.
وفى عصور الظلام وكبت الحريات يفقد المسلم هذا التصور الشامل ويكتفى بالطقوس.. فيصبح بعيدًا عن الله وغريبًا عن الطبيعة والمجتمع والإنسان.. الإنسان التقليدى هو قرد يعتمد على المحاكاة وتكرار عادات الأسلاف دون تفكير «والإنسان الخيالى يتأمل ويبدع فى كل يوم تصورًا جديدًا لما حوله لأن الطبيعة لا تتوقف عن الحركة والمجتمعات تتغير والإنسان فى تطور.. إن الإنسان التقليدى يخاف من تسلق الشجرة وتأمل النجمة ويرى كل شىء محرمًا حتى أمواج البحر.