
عاطف بشاى
أسبوع الدم..المصرى بكام النهارده!
هذا وطن لا يحب الفقراء.. بل يزدريهم ويستمتع بإهانتهم.. وينتشى بتعذيبهم.. إنهم لا يستحقون الحياة وعليهم إن وجدوا بها أن يقدموا دائما اعتذارا عن هذا الوجود.
فى عام 2002 وقعت فاجعة فاقت فى عبثيتها كل أشكال العبث.. حيث سقطت دورة مياه قطار الصعيد بسيدة داخله.. تصورت وقتها وأمثالى من السذج أن تلك الحادثة الرهيبة كافية لإيقاظ الضمائر الميتة من غفوتهم شحذا للهمم واستنهاضا للنخوة واستنفارا للوعى بالمسئولية الوطنية فى إصلاح اعوجاج ميزان العدالة الاجتماعية وتقويم تداعى واختلال مفاهيم الرحمة والتراحم.. لكن لا أحد تحرك حتى وقعت الكارثة الكبرى وتحول قطار الصعيد إلى «فرن حريق».. يجرى على الأرض يحمل رءوسا مشتعلة تهرول منصهرة ودخانا أسودا يأكل الوجوه ويلتهم الأجساد.. وأنجزت المنايا وعيدها.. وأخلفت الآمال ما كان من وعد.. وطوى الردى المئات حرقا وضن على آخرين.. فكتب لهم حياة أسوأ من الممات بعد فقدان الأهل والأحباب.
لكن الفاجعة - كما رأى وقتها أصحاب الياقات المنشاة وكتبة السلطان - يجب ألا تنسينا الأسباب التى أدت إلى حدوثها، فعار علينا أن نلقى الاتهامات جزافا أو نلصق المسئولية على جبين القدر وتصاريف الدهر الذى يجرى على حكمة المألوف فى الإتيان بالغامض وغير المعروف.. إن الركاب مسئولون لا ريب.. وهم فى النهاية ضحايا جرائرهم.. ألم يشعلوا المواقد ليشربوا الشاى الأسود؟!
ألم يدخنوا النرجيلة؟! ليدفعوا إذا ثمن تسببهم واستهتارهم وحماقاتهم مثلهم مثل أولئك الذين راحوا ضحايا السيول التى جرفتهم لأنهم كما أعلن مسئول كبير وقتها قد بنوا بيوتهم فى مجرى السيل وقال بالحرف الواحد: يستاهلوا.. إنهم يستحقون عقاب الأرض قبل عقاب السماء.. ولو كان الفقر رجلا لقتلته.
وكان من المنطقى أن تتوحد مظاهر القهر والظلم وانعدام العدالة الاجتماعية التى تراكمت مظاهرها تراكما بشعا متجسدة فى ملايين البشر الذين تدفقوا فى الميادين يقودهم سنابل الوطن الزاهرة وقاموا بثورة 52 يناير العظيمة التى أسقطت نظاما ديكتاتوريا عتيدا سقوطا تاريخيا مدويا.. ورفعت شعارات العيش والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.. إنها ثورة الفقراء التى جاءت من أجل التعبير عن أحلام بسطاء الوطن الذين يمثلون أغلبيته البائسة فى حياة أكثر عدلا وإنسانية.. إن الشعور بالفوارق الطبقية نتيجة الثراء الفاحش فى مقابل الفقر المدقع والتناقض الحاد بين قاهرة الفقراء الذين يعيشون بالملايين فى العشوائيات والمقابر.. تحت مستوى الفقر.. وبين قاهرة أخرى ينعم فيها اللصوص بنهب ثروات الوطن وأراضيه.
هذا التناقض كان المقدمة المنطقية للثورة.. وليس أدل على ذلك من أن الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فى الميدان هم أبناء البسطاء الذين يحلمون بالعدالة الاجتماعية وهى أهم أهداف تلك الثورة التى حاول الكثيرون من المتحذلقين والمثقفين «الحنجوريين» إضاعة ملامحها وتغيير مسارها فى حوارات وطنية وتوافقية عقيمة ترفع لافتات وشعارات أخرى ملتهبة ومتداخلة وتجرى فى النهر مياه كثيرة.. وتتوالد الائتلافات المتنافرة وتتناحر القوى السياسية من أحزاب ونخبة وجبهات وتكتلات وطنية ومذهبية تناحرا مقيتا تحكمه مصالح متباينة.. وأهداف متضاربة ومطامع صغيرة ومخزية.
وما إن نصل إلى حكم الإخوان حتى يتأكد ذلك التراجع المزرى عن تحقيق أهداف الثورة وأحلام البسطاء ويختزل مشروع الثورة فى إجراءات المائة يوم لتحقيق الأمن وتنظيم المرور وإزالة المخلفات.. ويطالب الحكم البؤساء فى مساعدة الدولة فى التخلص من القمامة.. وتعجب أشد العجب كيف لهؤلاء الذين يأكلون من الزبالة أن يزيلوها؟!
ولأن الفقراء لا يستحقون الحياة وتكرههم حكومة الإخوان «التقية المؤمنة» مثلما كرهتهم دولة الحكم البائد للأغنياء اللصوص فكما تفحموا فى قطار الصعيد.. وأكلتهم الأسماك المتوحشة فى حادثة غرق العبارة.. ثم وقعت فوق رءوسهم هضبة المقطم.. تناثرت أشلاء صغارهم عند مزلقان الموت فى حادث اصطدام قطار أسيوط بأتوبيس المعهد الدينى.. ووقف أب فوق قضبان القطار يجمع فى كيس من البلاستيك بقايا من أعضاء جسد ابنه ليضمها إلى ما وجد منها بالمستشفى لكى يدفنه.. ووقفت إلى جواره أم مقروحة العينين مسترسلة النواح والرثاء تلملم ما تبعثر من أشلاء أبنائها ورد الحياة.. السنابل الأربعة الواعدة.. رأس.. قدم.. ذراع.. قلوب صغيرة كعصافير الشتاء.. وهى تنتحب صارخة: «لماذا لا تقوم القيامة»..؟!
لقد ماتت ضمائر أصحاب القلوب الأسمنتية والعيون الزجاجية.. والوجوه اللامعة التى تتدلى منها ترهات الزيف والتى تبرر الجريمة وتبعد عن نفسها الشبهات.. فالفقراء كالمعتاد هم القتلة والضحايا.. ألم يحشروا صغارهم فى أتوبيس متهالك بأعداد متزايدة؟!.. ألم يكن عامل المزلقان نائماً؟!.. أى ملاعين أنتم أيها التعساء؟! ألم يثبت أن ضحايا العبارة لا يجيدون السباحة؟!.. إنه الهراء بعينه الادعاء بتفشى الفساد فى هيئة السكك الحديدية.. كفاكم قسوة وسادية وأنتم تتهموننا بالتسيب والإهمال وأن أغلب ميزانية الهيئة تذهب لجيوب المسئولين وكبار الموظفين على هيئة حوافز ومكافآت فتترك القطارات بلا رقابة أو صيانة.. والمزلقانات بلا تحديث أو متابعة أو أجهزة إنذار فعالة.. ناهيك عن الإشارات المعطلة وسوء حالة الجرارات والعربات التى لا تصلح لنقل الركاب ولا الدواب.. ولأن القيامة لا تقوم ومن مات فى فزع القيامة لا يجد قدما تشيع أو حفاوة ساعٍ.. فإن ضحايا «قطار البدرشين» التسعة عشر قتيلاً يعبئون فى جوال يضم أشلاءهم فيزنون عشرين كيلو جراماً من الأجساد والعظام الرخيصة فهم عبيد يحشدون فى مركبات العبيد.
هم ضحايا الحادث.. وهم أيضاً المسئولون عنه.. من خلال رمز يمثلهم.. عامل المزلقان.. عامل بلوك.. عامل صيانة.. سائق.. أما البؤساء من أهالى المنطقة فقد لعبوا دور الحكومة.. تولوا بأنفسهم البحث عن المصابين والقتلى بواسطة الكشافات الكهربائية وأنقذوا بعض المصابين وأخرجوا جثثا من تحت عجلات القطار.. ونقلوا القتلى والجرحى إلى المستشفى فى تكاتك.
وأما السادة فقد قاموا بدور البؤساء.. يواسون المصابين ويربتون على أكتاف الجرحى.. ويرثون الموتى.. لكنهم يتعجلون العودة.. فشتاء هذا العام بارد وثقيل.
ومصر الكسيرة الحبلى بالأحزان والجراح والتى تفرش أطفالها فوق القضبان بساطاً لقطار صدئ.. وجنودها ضحايا قطار آخر تصرخ أشلاؤهم ودماؤهم.
تبكى مصر فيدهش من بكائها الشاعر الكبير «أمل دنقل» ويخاطبها: لم تبكين وأنت طول العمر تشقين / وتحصدين مرارة الخيبة.
هل نظل نتجرع الأيام صبراً؟!.. هل تظل الأرض جدباء!!