
عاطف بشاى
التماثيل المحرمة
قال لى سائق التاكسى بحسرة وهو يمر أمام محل أنتيكات وتحف مشيراً إلى أحد التماثيل:
- ما أجمل تلك التماثيل.. كم كنت أتمنى أن أقتنى أحدها لتزيين منزلى.. لكن للأسف لن أستطيع ذلك..
قلت مستنتجاً:
- مفهوم.. مفهوم.. أثمانها باهظة.. أنا أشاركك الحسرة فإمكانياتى المادية أنا أيضاً تقف حجر عثرة أمام تحقيق هذا الحلم..
لكنه أكد موضحاً:
- لا.. ليس هذا هو السبب.. ولكن لأن التماثيل أصنام ينبغى تحطيمها لا اقتناؤها لقد سمعت ذلك من أحاديث متفرقة لدعاة فى قنوات فضائية دينية.
ثم ما لبث أن توقف بالسيارة فى المكان الذى طلبته منه.. فهبطت من السيارة متعمداً ألا أدفع له الأجرة.. استوقفنى منبهاً.. فبادرته بادعاء:
- أنا أعمل نحاتاً.. أى أروج للكفر والضلال.. وما أملكه من نقود هى أموال حرام.. هل تقبل أن تطعم أولادك من نقود حرام لكافر زنديق مثلى؟!
تراجع الرجل فى التو واللحظة عما قاله وأقسم أنه غير مقتنع تماماً بتلك الخرافات وليس مسئولا عنها حتى حصل على أجره وانصرف..
والحقيقة أنه قبل وصول الإخوان للحكم – بأكثر من عشر سنوات – والظلاميون المكفرون الذين يكرهون الفنون ويشيعون ثقافة الحلال والحرام والتجريم والمصادرة من خلال فتاواهم السامة قد أثروا تأثيراً خطيراً فى العامة الذين اعتبروا أن تلك الخزعبلات أوامر ونواهٍ دينية ومسلمات فقهية لا تقبل المناقشة ولا المراجعة.. مما دفع سيدة ملتاثة منذ فترة أن تقفز سور فيللا متحف المثال «حسن حشمت» وتحطم أحد التماثيل الموجودة فى حديقة الفيللا باعتبار أنه صنم.. بل إن المفارقة المؤلمة التى كنت أتصور أننا لا يمكن أن نشاهدها إلا فى مسرح العبث.. أن بعض أساتذة قسم النحت فى كلية الفنون الجميلة يؤمنون بذلك إيماناً راسخاً.. ويعترفون للطلبة أن النحت حرام ولكن «أكل العيش» هو الذى جعلهم يقومون بتدريسه طالبين من الله العفو والمغفرة..
وفى ظل تنامى التيارات السلفية والوهابية بعد وصول الإخوان إلى الحكم وتصاعد نشاط التكفيريين الذين وصفوا الحضارة الفرعونية بالعفن وغطوا صدور النساء فى لوحات الفنان «عبد الهادى الجزار» ونقبوا تمثال أم كلثوم بالمنصورة.. ودحروا رأس تمثال «طه حسين» فى مسقط رأسه فى المنيا.. فلم يكن غريباً أن يطالب الشيخ «مرجان الجوهرى» بتحطيم الأهرامات وتمثال أبو الهول باعتبارها أوثاناً تعبد حتى الآن..
وهكذا أرادوا العودة بنا إلى عصور سحيقة من التخلف والجهل بسطو صريح على عقل أمة وتراث شعب وتاريخ حضارة.. باعتبار أن التماثيل محرمة لأنها صنعت للعبادة أيام الجاهلية.. وليست فنوناً راقية تجسد أفكاراً سامية وإبداعات إنسانية عظيمة..
الآن وبعد مرور سنوات على اندلاع ثورة يونيو التى أطاحت بحكم الإخوان تدهورت أحوال الفنون وخاصة فن النحت.. كما لو أن هناك مؤامرة لتدمير هويتنا والإجهاز على روحنا الإبداعية، وبأيدينا وليس بمعاول هدم إرهابى «طالبان»، نترك آثارنا نهباً للإهمال المدمر بتشويه التماثيل بدهانات فجة قبيحة أو بلصق ذقن توت عنخ أمون «بالاوهو» فتسبب هذا الترميم الخاطئ فى وجود طبقة صفراء شفافة بين اللحية وبقية القناع حاول أحدهم إزالتها بآلة حادة مما أدى إلى حدوث خدوش بها..
وأخيراً ما حدث بأحد المتاحف بمحافظة «سوهاج» بتثبيت رأس تمثال أثرى بالمسامير.. وذلك باستخدام شنيور وثقب القطعة الأثرية ذاتها.. أصدرت وزارة الآثار بياناً تبريرياً متهافتاً بادعاء أن هذه الطريقة استخدم فيها دعامات معدنية بصفة مؤقتة لحين تثبيت هذه القطع على قواعد العرض المتحفى الخشبية والمعدنية المعدة خصيصاً لها.. إن هذه الدعامات سوف تتم إزالتها بعد ضمان التأكد من عملية التثبيت على القواعد..
والحقيقة أن الإهمال وعدم الاكتراث والتسيب الإدارى التى أدت إلى هذا الحادث وغيره.. ليس أمراً غريباً أو مفزعاً أو مفاجئاً.. إنه يمثل فى رأيى إحدى النتائج المنطقية لتدهور مفهوم الفن، خاصة فن النحت عند العامة والذى تصاعد تصاعداً مؤسفاً خلال الثلاثين عاماً الماضية..
واذا أضفنا إلى تأثير التكفيريين سمة أخرى تحكم سلوكنا هى الإهمال الذى تراكم والتسيب الذى أصبح طقساً اعتيادياً.. وازدراء الجمال وكراهية الفن الذى أمسى مقدمة منطقية لسيطرة القبح والدمامة، فإن تدمير التراث الفنى والحضارة العظيمة التى شيدها الأجداد.. أضحى عادة لا تثير دهشة أو استهجاناً وأصبح من الطبيعى أن نصحو كل يوم على خبر مفزع يتصل بتشويه أثر.. أو تحطيم تمثال.. أو سرقة أيقونة.. أو تلف لوحة.