
عاطف بشاى
تسقط الرجعية!
بين «أنا حرة» أولى الروايات التى كتبها «إحسان عبدالقدوس».. و«نسيت أنى امرأة» زمن طويل أبدع فيه «إحسان» عشرات الروايات والقصص القصيرة التى تعنى بحركة تحرير المرأة.. وفكرة المساواة مع الرجل والتى كان ولا يزال يرفضها المجتمع المحافظ.. حتى إننا يمكن أن نقول بثقة أنها روايات تعتبر أكثر تقدمًا من المجتمع.
من هنا تم اضطهاد «إحسان» وظلمه البين نقديًا.. فاستعلاء النقاد.. وقراءهم من الرجعيين وأصحاب النظرة الضيقة للفن والحياة عليه.. يبدو وكأنه انتقام من آرائه التحررية ورؤيته الليبرالية.. وجرأته فى طرح أفكاره ومعانيه الصادمة التى تحرجهم فهم لا يرضون لأنفسهم أن تتساقط عنهم أقنعة الوقار.. وأردية الهيبة الذكورية الزائفة والمفتعلة.. فلم يحظ برضا الأيديولوجيين من أصحاب التيار اليسارى أو المحافظين من أرباب اليمين.. وأذكر فرمانات المتحذلقين من المثقفين اليساريين.. الذين كنت وأصدقائى الشباب فى الستينيات ونحن نتخذ من آرائهم الحنجورية التى تطلق الأحكام النقدية الجاهزة.. بترفع وعنجهية لتتهم «إحسان» كما تتهم «نزار قباني» بالسطحية والتفاهة.. وتوصمهما «بأدب الفراش».. و«الشعر الجنسى الفج» بل إنهم وصموا «إحسان عبدالقدوس» بتشبيه لا يليق بقامته الفكرية والفنية الكبيرة.. فقاربوه بكاتب روايات «بورنو» جنسية حقيرة هو «خليل حنا تادرس».. وكانت رواياته تملأ الأسواق ويقبل عليها المراهقون والمراهقات إقبالاً كبيرًا.
كنا نتطلع إلى هؤلاء المثقفين بانبهار ونصدقهم ونتبنى كالببغاوات مواقفهم.. وكنا لا نحمل فى جلساتهم معنا روايات لإحسان ولا نقرأها خشية أن يسخروا من سطحيتنا وجهلنا.. ويبعدوننا عن شرف الانتماء إليهم.
وهكذا ظللت شخصيًا وحتى وصلت إلى سن الثلاثين لم أقرأ لهذا الكاتب العظيم.. ثم بدأت على استحياء ومن باب الفضول والتحفز أقرأ أعماله الأولى كـ«أنا حرة».. و«لا تطفئ الشمس» و«أين عمرى» فندمت ندمًا كبيرًا لأنى حرمت نفسى من أن أنهل من هذا النبع العميق بالغ الغور والثراء والإبداع.
يناقش «إحسان» فى «أنا حرة» كما يناقش فى مجموعته القصصية.. «لا.. لا.. ليس جسدك».. قيمة العمل فى حياة المرأة و«حرية الحب».. وعبودية الزواج.. فيرى أن الزواج وظيفة بنت تتوظف عند رجل.. تشرف على بيته.. وتطبخ طعامه.. وتغسل ثيابه.. وتشبع غريزته.. وبجانب هذا تقوم بوظيفة عامة وهى إنجاب الأطفال.. وذلك نظير مرتب ثابت يشمل: المأكل والمسكن.. والملبس.. والعلاج.. وشروط الزواج هى نفس شروط أى وظيفة أخرى.. المركز الملائم.. والدخل الملائم.. والمظهر الملائم.. ثم المؤخر والنفقة يساويان المكافأة والمعاش فى حالة الاستقالة من أى وظيفة أخرى.. ولا شك أن المجتمع يحتاج إلى هذه الوظيفة.. وظيفة الزوجة.. ولكن حاجته إليها ليست أكثر من حاجته إلى الوظائف الأخرى.. حاجة المجتمع إلى الزوجات ليست أكثر من حاجته إلى عمال المصانع.. أو إلى موظفى إدارة المعاشات.. أو مديرى الشركات.. وهذه الضجة التى تقوم حول زواج البنات ليس سببها أن وظيفة الرجل الذى تحبه.. وهى ليست واثقة من أنها تستطيع أن تمتلكه بعواطفها.. فتضطر أن تمتلكه بعقد شرعى.. تمامًا كما تمتلك قطعة أرض بعقد عقارى.. إن الزواج فى هذه الحالة هو دليل عدم الثقة فى النفس.. وعدم الثقة فى الحب.. دليل على اهتزاز الشخصية أمام الناس.. فتلجأ البنت إلى تسجيل حبها فى قلم التسجيلات حتى لا يضيع منها.. وبطلة «أنا حرة» التى تحولت إلى فيلم سينمائى جسدته «لبنى عبدالعزيز» هى شخصية واثقة من نفسها.. وليست فى حاجة إلى امتلاك حبيبها عندما تحب.. إنما سيكون حبها خاليًا من الأنانية.. سيكون كل منهما الرجل والمرأة أحرارًا طلقاء.. لكل منهما وظيفته وحياته.. ولا تجمعهما إلا عواطفهما.. والرجال عادة لا يقبلون على الزواج مضطرين.. تحت إلحاح الحرمان أو تحت إلحاح التقاليد الاجتماعية التى لا تعترف بالحب بلا زواج.. ولكنه دائمًا يفضل ألف مرة أن يجد البنت التى يحبها ولا يتزوجها.. لماذا؟! لأن له وظيفة أخرى غير وظيفته كزوج.. لأنه إذا لم يتزوج لن يعتبره الناس.. ولن يعتبر نفسه عاطلاً.. والبطلة أيضًا مقتنعة أنها قادرة بإرادتها أن تغير وجهة نظر الناس فى ألا يعتبرونها عاطلة إذا لم تتزوج.
وفى قصة «خواطر فتاة متحررة» ترى بطلة القصة أن البنت أصبحت تستطيع أن تعمل فى أكثر من وظيفة.. وبالتالى فهى ليست مضطرة إلى وظيفة الزواج أو على الأقل من حقها أن تختار.. إما أن تكون زوجة أو سكرتيرة.. أو مهندسة.. أو طبيبة.. وهى لا تريد أن تكون زوجة.. لا تريد أن تتوظف عند رجل.
ويخلص «إحسان» فى رؤيته إلى أن الزواج وظيفة، أما الحب فهو عاطفة.. ويدور الحوار بين بطلة القصة وبطلها.. حيث يرى البطل أن التكوين الجسمانى للبنت من طبيعته أن يجعلها أمًا بمجرد لقائها بأول رجل.. بل إن عواطف البنت ومشاعرها تنبثق كلها من طبيعتها كأم.. وتتساءل هي: إذا كانت أيضًا طبيعة تكوين الرجل الجسمانى تجعله أبًا بمجرد لقائه بأى بنت فلماذا لا يحترم الرجل أبوته ويفرض على المرأة فروقًا مفتعلة فرضها الرجل على المرأة عندما كان يستعبدها.. وعندما كانت هى ترضخ لهذا الاستعباد.. لأنها كانت تعيش عالة عليه.
وعندما يصيح البطل باستنكار: أنى لا أستطيع أن أحبك وأنا أتصورك كل يوم مع ر جل.. تواجهه: هل ستكون أنت كل يوم مع امرأة؟!
- لا.. لأنى أحبك.
- وأنا أيضًا.. لأنى أحبك فسأكون لك وحدك.. إن الإخلاص ليس فرضًا يفرضه عقد مكتوب.. إنه رغبة نابعة من العاطفة.. رغبة تغنى البنت عن كل الرجال إلا رجلاً واحدًا.. وتغنى الرجل عن كل البنات إلا بنتًا واحدة.. إنى لن أخلص لك رغمًا عنى ولا حتى احترامًا لك.. ولا أريدك أن تخلص لى مجاملة لى.. لا.. سأخلص لك من أجل نفسى لأنى لا أريد شيئًا آخر.. وأنت أيضًا.. أن إخلاصى ليس حقًا لك.. ولكنه حق لى.. وإخلاصك ليس حقًا لى.. ولكنه حق لك..
- هذه مبادئ خطيرة..
تؤكد البطلة ما أعتبره خلاصة رأى «إحسان عبدالقدوس».. وتوجهاته .. ورسائله وفلسفته.. التى احتشد لها فى رواياته وأخلص لها.. وضمنها عصارة فكره وتجربته الإنسانية.. فكان سابقًا لعصره.. وكان أيضًا «لوحة تنشين» يمطرها المتخلفون والظلاميون.. والمحافظون والذين تجمدوا عند الثوابت والتقاليد والأخلاق المرعية بوابل من نيرانهم.. وسهامهم المسمومة:
- كل تطور يبدو فى أوله خطيرًا.. إن السعى إلى الحرية والمساواة يعتبر ثورة
لذلك فإن «إحسان» فى رواية «ونسيت أنى امرأة» التى شرفت بتحويلها إلى فيلم كتبت له السيناريو والحوار وأخرجه المخرج الكبير «عاطف سالم» وقامت ببطولته القديرة «ماجدة» (هى أيضًا بطلة أفلامه «أين عمري» و«أنف وثلاث عيون»).
ألح «إحسان» على تأكيد هذا السعى إلى الحرية والمساواة.. وإصراره عليه رغم أن البطلة فشلت فى حياتها الزوجية عدة مرات.. بل لم تنحز إلى أمومتها فتسببت فى التباعد بينها وبين وحيدتها.. التى تزوجت ورحلت إلى الخارج مع زوجها.. وأصرت على تكملة مشوار حياتها الذى أخلصت فيه للعمل الذى تدافع من خلاله عن حقوق المرأة ومكتسباتها.. وكأن «إحسان» فى إلحاحه الدائم ذلك- رغم اتساع المساحة الزمنية بين العملين.. «أنا حرة» و«نسيت أنى امرأة»- كان يخاف أو يستشعر تلك الردة الحضارية التى نعيش فى كنفها الآن.. وقد رسخ شيوع الاتجاهات السلفية الحط من شأن المرأة.. وازدرائها.. واعتبارها عورة من رأسها إلى أخمص قدميها.. فهى من أهل النار لأنها مخلوق جنسى تثير الغرائز.. وتدعو إلى الفاحشة.. وينبغى أن يحصر دورها كزوجة فى الإنجاب.. ويجب إخفاء جسدها وملامحها ووجودها البشرى داخل خيمة متحركة.. بل يستحسن ألا تخرج من بيتها إلا إلى القبر.
ولعل أفكار «إحسان» الإصلاحية والتنويرية والثورية تلك هى ما أدت إلى ظلمه كرائد عظيم من رواد الرواية والقصة القصيرة المعاصرة.. القديمة والحديثة حيث أقدم ناشره السابق «سعيد السحار» بحذف جمل وعبارات وسطور يراها إباحية أو تحمل أفكارًا ليبرالية.. أو تنتصر للمرأة التى يجب أن تظل الأعمال الأدبية والمرئية تحصرها فى إطار متخلف.. بدواعى العفة والمحافظة على الشرف المستباح وصيانته.
وقد دعا د.«جابر عصفور» فى تصريح أخير- وأضم قلمى إلى قلمه- فى ضرورة أن تعاد طباعة أعماله وتقديمها للقارئ بشكل يليق بمكانتها.. بعد أن انسحبت الروايات من ناشرها إلى الدار المصرية اللبنانية.. التى تعهدت أن تحتفظ بأعماله فى صورتها الأصلية.. دون أن يمس حرفًا منها.
وسحقًا للرجعيين وأعداء الحب والحرية.. أعداء الحياة.