
عاطف بشاى
كرامة المؤلف
كنت أجلس شاردًا وحيدًا فى ركنى المعتاد بالمقهى، أفكر فى كتابة مذكراتى فى عالم الفن.. فقد لاحظت أنى أستمتع استمتاعًا بالغًا باجترار الماضى.. وأقضى أوقاتًا جميلة فى تذكر ذلك الماضى الجميل برموزه الرائعة وأعماله الفنية التى أشاهدها فى قناة ماسبيرو زمان.
أفقت من شرودى إلى يد حانية تربت على كتفى.. انتفضت واقفًا مأخوذًا محدقًا فقد رأيته بقامته المديدة وأناقته المعهودة ونظراته الجادة الثاقبة شاخصًا أمامى.. إنه الأستاذ والصديق «ممدوح الليثى».. الذى وافته المنية فى مثل هذه الأيام منذ خمس سنوات.
استدرك متسائلًا وهو يجلس ويدعونى لمعاودة الجلوس:
- كيف حالك.. ما الذى تكتبه فى هذه الأيام؟..
قلت فى أسى:
- لا شىء.. منذ لقائى بك قبل وفاتك انقطعت صلتى بفن كتابة السيناريو.
انزعج كثيرًا وهتف مستنكرًا: لماذا؟!
• لأنه فن فى طريقه إلى الانقراض.. كالغول والعنقاء والخل الوفى.. فى ظل شيوع القبح وتقلص الجمال.. وازدياد مساحة الفساد فى الذوق.. والجهل فى المعارف والثقافة العامة للمتلقى.. وتردى الوعى الجمالى.. والتداعى فى الحس الإنسانى.. لذلك فقد نصحتنى زوجتى فى الإعلان عن نيتى فى افتتاح ورشة.. ما رأيك يا أستاذنا؟!
هتف فى استنكار بالغ ودهشة شديدة:
• ورشة؟!.. ورشة إيه؟!.. عاوز تشتغل ميكانيكى..
قلت موضحاً:
- لا.. ورشة سيناريو.. ولكنها ليست من الفن فى شىء هى عبارة عن اشتراك مجموعة من كُتّاب السيناريو فى كتابة وصياغة العمل الدرامى برئاسته.. أو تحت إشراف واحد منهم.. وهى بذلك تصبح (صنعة) وليس فنًا مثل فن الشعر أو الرسم أو النحت أو الموسيقى.. لا إبداع فيها أو خلقًا.. أو أسلوبًا مميزًا ينفرد به المبدع.. بل إنها حرفة يمكن تعلمها من خلال بعض التدريبات.. والميكانيكى يمكن أن يكمل عمله ميكانيكى آخر.. (والصبى) بمرور الأيام يصبح (أسطى)!
- غريبة ولكن كيف يتم ذلك؟!
- واحد يكتب المشاهد الخاصة بالبطل أو البطلة.. وثلاثة أشخاص أو أربعة كل واحد فيهم يمسك خطًا من الخطوط الدرامية.. ورابع يكتب «الإيفيهات الضاحكة» و«الأسطى» فى النهاية يربط الخطوط ببعضها ويشرف على العمل بأكمله.
هتف فى سخط:
- إن هذا النظام يشبه جلباب «المجذوب» الذى هو خليط من الرقع الملونة فى تنافر لا يحقق اتساقًا أو ترابطًا أو منطقًا، بينما الفن هو الاتساق والانسجام والترابط والجمال.
ثم أكد بثقة وحسم:
- إن توقف قطاع الإنتاج بالتليفزيون.. وصوت القاهرة.. ومدينة الإنتاج الإعلامى وجهاز السينما بها عن الإنتاج.. ساهم مساهمة كبيرة بلا شك فى تلك المهزلة التى ترويها.
قلت مؤكداً:
- غيابك مؤثر جدًا يا أستاذ.. تزداد قناعتى بذلك يومًا بعد يوم.. لقد عاصرتك منذ أن جلست خلف مكتبك الشهير بالدور (21) وأشعلت حماس المخرجين وكتاب السيناريو.. كنت تختار النصوص بنفسك وتبادر بالتعاقد على روايات كبار الروائيين.. وتختار بنفسك أيضًا كاتب السيناريو والمخرج اللذين يصلحان لتجسيد تلك الروايات.. وكنت تقرأ بنفسك تلك السيناريوهات دون الاعتماد على تقارير اللجان المختلفة.. وضاربًا بعرض الحائط بملاحظات الرقابة التعسفية.. وتفرض إجازة عرض الفيلم التليفزيونى أو المسلسل على مسئوليتك الشخصية.. كنت أدهش من مثابرتك الجبارة على قراءة نصوص الأفلام والمسلسلات مشهدًا مشهدًا وجملة جملة.. وكنت تكتب ملاحظاتك الدقيقة عليها.. والمدهش أكثر من ذلك الإصرار الغريب على متابعة إعادة كتابة النص ربما بأكمله بعد تنفيذ التعديلات التى تطلبها.. إننى أذكر أنك جعلتنى أكتب حلقات مسلسل «الوليمة» أربع مرات كاملة ابتداء من المشهد الأول بالحلقة الأولى حتى نهاية الحلقات فى كل مرة كنت تكتب تلك الملاحظات القاسية وتجبرنى على إعادة الكتابة إجبارًا لا يقبل تنازلًا أو تراجعًا.. وكم شهدت حجرة مكتبك المناقشات العاصفة.. والاشتباكات العنيفة منذ الصباح الباكر، حيث كنت تبدأ عملك فى السابعة ولا تنهيه قبل منتصف الليل فى تواصل مضنٍ.
• الحمد لله .. لم يضع جهدى عبثًا.. لقد رحلت عن الدنيا.. ولكن بقيت تلك الأفلام والمسلسلات علامات لا تنسى.. وستظل محفورة فى الذاكرة باعتبارها من كلاسيكيات التليفزيون المهمة الباقية شاهدة على الفن الراقى.
- كان هذا يرجع فى المقام الأول إلى إدراكك العميق أن السيناريو هو العمود الفقرى والأساسى الذى يحتوى على أعمدة البناء الدرامى للنص.. ولديك القدرة الفائقة على الفرز الحاسم والتفريق بين الموهبة والادعاء.. الغث والسمين.
• كان التحدى الأول أن أحفظ للفن الدرامى المصرى.. كرامته وشموخه وسيادته على جميع الأسواق العربية.. وحولت قطاع الإنتاج إلى مزرعة لتفريخ الكتاب والمخرجين والممثلين ومهندسى الديكور.. فأصبح لدينا فيلق عظيم من كتاب الدراما الرفيعة: محفوظ عبدالرحمن– أسامه أنور عكاشة– عاطف بشاى– محسن زايد– جلال عبدالقوى– يسرى الجندى- عبدالسلام أمين– محمد صفاء عامر.. وغيرهم.
- وحفظت للكاتب المتميز كرامته.. وجعلت اسمه يقفز فى التيترات من مكانه غير اللائق فى ترتيب الأسماء إلى الصدارة.. وتعاقدت معهم بأجور مرتفعة.. وحرصت على تكريمهم بجوائز وشهادات فى مهرجانات التليفزيون، وبالتالى لم يتحول السيناريو والسيناريست إلى ما يحدث الآن إلى «صنعة» و«صنايعية» فى تلك الورش المخجلة.. حيث يصبح العمل الفنى «سبوبة» يوزع فى نهايتها ناظر «الأنفار» «الأبيج» على «الغرابوة» من شغيلة الترحيلة كل واحد وعدد الحلقات التى كتبها.. وإديها ميه تديك طراوة.. وسقع وبيع يا معلم.