
عاطف بشاى
الداهية
كان «أنور السادات» شخصية مدهشة.. ذا طبيعة خاصة منفردة.. وكاريزما مبهرة.. اتفق محبوه وخصومه على ذكائه الحاد.. وقدرته الفائقة فى الخداع.. والتفكير والتخطيط الماكر والمراوغة والدهاء.. وأسلوبه المميز فى طريقة التقمص والتنكر والتمثيل والأداء الدرامى ذي الطابع المسرحى.. البارع فى الأداء.. وقد ظهر ذلك منذ ليلة ثورة (23 يوليو 1952) واضحًا فى التمثيلية الشهيرة التى ألفها وأخرجها.. وهى تعمده دخول السينما ومشاهدة الأفلام الثلاثة التى تعرضها وافتعاله المشاجرة مع أحد المتفرجين.. والذهاب إلى قسم الشرطة وتحرير محضر ليثبت– إذا ما فشلت الثورة- أنه كان فى السينما.. وبالتالى يفلت من حكم الإعدام الذى كان ينتظره هو وأعضاء مجلس قيادة الثورة.
ويقول «عادل حمودة» فى كتابه الرائع «كيف يسخر المصريون من حكامهم»: وسواء كان ذلك التصرف براعة أم هروبًا.. فإنه تحول إلى نكتة.. فعندما كان أحد يسأل: هو السادات فين.. كان زملاؤه فى مجلس قيادة الثورة يقولون: فى السينما على أن «خالد محيى الدين» فى كتابه.. «الآن أتكلم».. (وهو فى رأيى من أفضل كتب المذكرات السياسية) قد دافع عن السادات رغم خصومتهما وتنافر توجهاتهما.. وهو ما بدا واضحًا فى مقالات كتبها «السادات» عن «خالد» واصفًا إياه بالصاغ الأحمر.. أى الشيوعى وذلك فى السنوات الأولى من الثورة.
قال خالد عن واقعة السينما إن السادات لم يكن بمفرده الذى فكر فى حيلة للإفلات من مصير عقاب الملك الغاشم بل غيره من الزملاء وعلى رأسهم «جمال عبدالناصر» نفسه.. وكذلك «عبدالحكيم عامر» بارتدائهما الملابس المدنية فى تلك الليلة.. خشية القبض عليهما.. والحذر هنا ليس جبنًا أو هروبًا.. أو انسحابًا من الثورة.
غير أننا ونحن بصدد الحديث عن قدرات «السادات» العقلية الباهرة وشخصيته المتفردة فى المكر والدهاء والخداع.. تبرز خطة الخداع الاستراتيجى للعدو التى وضعها وأثمرت عن محو عار الهزيمة بعبور المصريين خط «بارليف» والساتر الترابى.. وكسر أسطورة جيش إسرائيل الذى لا يقهر.. وكانت خطة الخداع التى رسمها تجسد عناصر عديدة.. ربما كان أكثرها مكرًا هو استغلال الحالة النفسية للعدو الذى كان لديه اعتقاد مؤكد بأنه لا يمكن لبلدين مختلفين فى الاتجاهات الاجتماعية والسياسية.. كما هو الحال بين مصر وسوريا.. أن تقوم بينهما وحدة كافية لدرجة أن يهاجما خصمهما على جبهتين فى نفس الوقت.. بينما الحقيقة تتجسد فى مشهد طريف للسرية الكاملة التى شملت الاتفاق بين البلدين.. يتمثل فى هيئة سياح يصل القادة العسكريون السوريون إلى الإسكندرية للاجتماع بالقادة المصريين.. يليه اجتماع سرى آخر بين الرئيس «السادات» والرئيس «الأسد» فى دمشق لبحث ما تم التوصل إليه فى الإسكندرية.. ويقدم «الأسد» تفويضًا كاملًا لـ «السادات» باعتباره القائد الأعلى للقيادة الموحدة للدولتين لاتخاذ ما يراه مناسبًا من حيث بدء الهجوم على الجبهتين.
وعلى الجبهة الدبلوماسية كان الأمريكيون وغيرهم مندهشين من النزعة السلمية البادية على اتجاهات وتصرفات القيادة السياسية فى «مصر» فقد فتح القائد العام باب الاشتراك لأولئك الضباط الذين يريدون أداء العمرة إلى مكة.. وعلى الجبهة العسكرية كان الانتشار النهائى للقوات قد تم تحت الغطاء المطمئن لمناورات الخريف الشتوية.. وجرت العادة على أن تزداد الأعداد المشاركة فى هذه المناورات كل عام فلم يشاهد الإسرائيليون شيئًا مقلقًا فى الحقيقة القائلة بأن المناورات هذه المرة تشهد تشكيلات على وزن الفرق: بالإضافة إلى ذلك لم ينتبه الإسرائيليون أن كل لواء يتحرك إلى الجبهة فى الصباح.. كانت تعود منه كتيبة واحدة فقط.. وهو ما يعنى ثلث عدد المجندين- فى الليل.. وذلك لإعطاء الانطباع بأن هذه القوات كانت فى مهمة تدريبية وأنها تعود إلى مواقعها بعد إتمام تلك المهمة.
ويكلف اللواء «الجمسى» بإعداد دراسة دقيقة لاختيار أنسب التوقيتات لبدء الهجوم على المسارين المصرى والسورى.. وبعد عمل علمى وجاد ودراسة جميع المعطيات والتغيرات يصل «الجمسى» إلى أنسب التوقيتات.. وهو يوم السادس من أكتوبر (1973) يوم «عيد الغفران» فى إسرائيل.. وفى عملية بطولية نادرة ينجح رجال الضفادع البشرية فى إعداد خطة للتخلص من سلاح مهم يمتلكه الإسرائيليون وذلك بالتخطيط للعبور تحت سطح القناة لسد فتحات مواسير النابالم قبل اليوم المحدد للعبور.
وتتصاعد خطة الخداع الاستراتيجى مع اقتراب ساعة الصفر وتتواصل الاستعدادات السرية على الجبهتين المصرية والسورية حيث يسافر الفريق «أحمد اسماعيل» سرًا إلى دمشق للتأكد من مدى جاهزية الجيش السورى لخوض الحرب فى الموعد المحدد.
تقترب ساعة الصفر.. وتتصاعد التحركات على الجبهة.. بينما تقطع الإذاعة برامجها لتذيع بيانًا وهميًا يؤكد قيام قوات إسرائيلية بمهاجمة موقع الزعفرانة المصرى.. مما يعد خرقًا لوقف إطلاق النار.. وأن هذا سوف يؤدى بالقوات المصرية للرد على التحرك الإسرائيلى المفاجئ.
تصدر الأوامر للطائرات المصرية بالتحرك على ارتفاعات بالغة الانخفاض.. وفى وقت واحد لضرب الأهداف المعادية فى تمام الساعة (س) ساعة الصفر.
وعلى الجانب المصرى.. يتابع «السادات» و«أحمد إسماعيل» والقيادة فى لهفة شديدة نتائج الضربة الجوية الأولى فى انتظار عودة الطائرات المصرية التى تعود إلى قواعدها بعد تنفيذ الضربة بنجاح كبير.. وخسائر لم تتعد خمس طائرات.
يتبادل الجميع التهنئة بينما يرفرف العلم المصرى لأول مرة منذ سنوات على شرق القناة.
يقول الصحفى البريطانى «ديفيد هيرست» فى كتابه المهم «السادات» إنه فى يوم (16) أكتوبر (1973) هذا يوم مجيد للرئيس المصرى «محمد أنور السادات» وقد كان الشعب المصرى متلهفًا على كل كلمة سترد فى الخطاب الذى سيلقيه فى مجلس الشعب.. ومع مروره وهو واقف فى سيارته المكشوفه مرتديًا زيًا عسكريًا.. لم يكن ما هو أحب إلى نفسه من وقع اسمه «سادات.. سادات» بنفس الصوت الهادر الذى كان الصخب الراعد يصرخ به : ناصر.. ناصر.. الذى طالما حيا سلفه أثناء ظهوره الجماهيرى.
كان «عبدالناصر» عملاقًا.. لكنه هو نفسه الذى قاد العرب نحو الهزيمة الكارثية التى منوا بها (67).. لكن السادات هو من قادهم نحو النصر الكبير فاسترد الكبرياء الجريح للمصريين والعرب فى كل مكان.
وقال «موسى صبرى» – الأكثر موالاة «للسادات»: تذكروا يا عرب.. كم عانى الرجل فى صمت.. وبينما كان فى طريقه لإلقاء خطابه التاريخى.. أطل بطل العبور بوجه مشرق على الشباب المتمردين الذين عبروا بسخط عن خطئهم فى حقه على مدار السنوات الثلاث الماضية.