
طارق مرسي
جمهورية السادات الغنائية
فى مذكرات «سيدة من مصر» للسيدة الفاضلة جيهان السادات قالت فى أحد أعياد ميلادها: قال لها السادات يا جيهان أنا ما عنديش فلوس أجيب تورتة أو أعزمك فى أحد الفنادق.. أنا «حاغنى لك»، ثم غنى لها «يا ريتنى طير فى سماكى»، ثم «نورا نورا يا نورا» لفريد الأطرش.
وعندما أصبح السادات رئيسا لمصر قال للكاتب الكبير أنيس منصور:
أنا رجل فنان أحب الفن وأقدره وأحب الكلام الجميل والصوت الجميل.. فقال له أنيس: كنت هاتغنى يا ريس.. أجاب: أيوه انت وبس اللى بتغنى يا أنيس.. أنا كنت هاغنى، وكان من الممكن أن أكون مطربا.. وغنى السادات وقتها إحدى أغنيات فنان الشعب سيد درويش.
أما المفاجأة الحقيقية التى تعكس غرام الرئيس بالغناء وأهل المغنى فيفجرها المطرب الكبير أحمد إبراهيم نقلا عن ابنة زكريا الحجاوى فى برنامجه الإذاعى «المغنواتى» أن «السادات» وقت هروبه بعد اتهامه بقتل أمين عثمان لجأ إلى والدها بمنزله بالمطرية وعمل وقتها لمدة شهر «صيادا» حتى أغلق ملف القضية الشهيرة.
سيد درويش وزكريا الحجاوى وأم كلثوم وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ ووردة وياسمين الخيام وبليغ حمدى ومحمد سلطان.. وغرام بطل الحرب والسلام بأهل المغنى عموما الذى دفعه برواية أحمد إبراهيم أيضا نقلا عن أستاذته د. رتيبة الحفنى أنه كان يختار برنامج الغناء الشهرى لفرقة أم كلثوم للموسيقى العربية وهى أكبر تصديق بأن للسادات الزعيم الأسطورى جمهورية غنائية لم تتشكل من فراغ، ولها جذور طويلة، بل عميقة أيضًا.
ويلخص الكاتب الكبير أنيس منصور ما سبق فى رواياته عن علاقته بالزعيم الخالد بقوله: السادات رجل أخطأ الطريق إلى أمله.. وهو أن يكون ممثلا أو مطربا أو قارئا للقرآن أيضا.
وفى آخر حضور لعيد الفن الذى أطلقه الرئيس السادات لتكريم المبدعين ويؤكد فيه عشقه للغناء، ترجم لنا الشاعر الكبير حسين السيد فى رائعة «نشيد الفن» الذى شاركت فيه وردة ومحمد قنديل وهانى شاكر وياسمين الخيام، فلسفة الرئيس المبدع بمقطع رائع غنته ياسمين الخيام ويقول فيه: «لو لمس الفن ضمير حاكم.. عمره ما يكون أبدا ظالم».
هذا المقطع الساحر الذى سبق عصره ويرد فيه على المتاجرين بالفن والدين والحياة من أنصار الجماعة الضالة الذين يحرّمون الغناء.
وياسمين الخيام ابنة القارئ الشهير محمود الحصرى وهى بطلة المقطع هى نفسها آخر اكتشافات الرئيس أنور السادات فى عالم الغناء، وكان مؤمنا بموهبتها وإحساسها الغنائى وطلب من موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب التلحين لها وقدم لها رائعة«خدنى معاك» وهى من آخر الكلاسيكيات الغنائية الطويلة.
حكاية السادات المبدع مع أهل المغنى حكاية طويلة وهى نفسها التى صقلت شخصيته الفريدة من نوعها فكان صاحب إيقاع مميز فى خطاباته السياسية، إلى جانب أنها منحته «تون صوتى» فريد يعرف متى يعلى صوته أو يخفضه بميزان «القرار والجواب» الغنائى، فضلا عن الحميمية فى نبرات قراءته للخطابات ودقة مخارج الألفاظ والجرس الموسيقى فى عباراته والإلقاء المميز والنادر سواء على مستوى الخطابات السياسية العاطفية بعد النصر المبين وعقب اتفاقية السلام «راجعوا خطابات السادات التاريخية».
الرئيس المبدع كان له مع عمالقة الغناء صولات وجولات تعكس مزاجه الموسيقى، لعل أبرزها قراره الرئاسى وتكليف الموسيقار الفلتة بليغ حمدى بتلحين عمل غنائى لقيثارة السماء الراحل سيد النقشبندى «مولاى» والذى أطلق عليه «لقاء السحاب» أسوة بلقاء أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب فى رائعة «أنت عمرى» بقرار من الرئيس خالد الذكر جمال عبدالناصر.. أمر التكليف صدر فى أحد مقرات «السادات» الغنائية فى القناطر الخيرية فى خطبة إحدى بناته على خلفية رواية تاريخية أطرافها بليغ حمدى وسيد النقشبندى والإعلامى وجدى الحكيم.. والمفاجأة أن الرئيس السادات هو مكتشف صوت النقشبندى الحقيقى وليس الأسماء المتداولة عندما سمعه قبل توليه الرئاسة فى عزاء أحد المقربين بالسويس فى مسجد الدكرورى وكان السادات فى هذا التوقيت رئيسًا لمجلس النواب، والمفارقة الأكبر أن السادات من شدة الزحام استمع له خارج المسجد وطلب بعد توليه الحكم أن يأتى إليه إلى مقره الغنائى الثانى فى قرية ميت أبوالكوم- حسب رواية حفيد سيد النقشبندى نفسه- ثم دعاه لخطبة ابنته فى القناطر الخيرية ليقدم وصلة ابتهالات دينية ويشهد نفس المكان مولد اللحن الأسطورى الذى كتبه الشاعر عبدالفتاح مصطفى «مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى.. من لى ألوذ به إياك يا سندى».
وهو اللقاء الذى تقول كواليس مولده إنه شهد رفض المبتهل الكبير وقال وقتها مين الواد «بليغ» ده بتاع سيرة الحب والأغنيات الرومانسية اللى أغنى له وكان يتخوف أن يفسد العمل حالة الخشوع التى اشتهر بها ثم قال بعد أن استمع إلى «مولاى».. الواد بليغ ده جن وكان خلف هذا اللقاء التاريخى زعيم مبدع سابق عصره.
«بليغ حمدى» حسب روايات شقيقة الكاتب د.مرسى سعد الدين كان صديقا مقربا للسادات قبل أن يتولى الرئاسة ثم تحول إلى رفيق دائم فى مقراته الغنائية بميت أبوالكوم والقناطر الخيرية وكان يحلو لبليغ أن يجلس أرضا ممسكا عوده يغنى للسادات الذى يردد وراءه ويجلس معه أرضا بكل «تواضع» وشاء القدر أن تكون أغنية العبور العظيم التى يرددها كل المصريين «على الربابة» للمطربة الكبيرة وردة من تلحين بليغ حمدى أيضا.. وتتعمق العلاقة أكثر عند اتفاقية السلام عندما قدم بليغ حمدى بذكاء شديد أغنية «يا عبدالله يا خويا سماح» لمحمد رشدى وتعكس رسالة المحبة والسلام التى تنادى بها الاتفاقية «ما كفاية اللى عدى وراح»..
لغرام الرئيس السادات بعمالقة الغناء وجوه أخرى وهذه الرواية بطلها الموسيقار محمد سلطان والذى كان ضيفا فى استراحته بالقناطر الخيرية عندما استدعاه الرئيس وطلب منه أغنية العيون الكواحل لفايزة أحمد ووقتها حسب ما قاله الموسيقار الكبير لـ«روزاليوسف» فى حوار سابق أمسك العود من سلطان وواصل الغناء بصوته فى مشهد لا ينساه سلطان التلحين.
أما علاقة السادات بعندليب الغناء فقد اتسمت بالحميمية وتوجت بأغنيتين «عاش اللى قال» و«النجمة مالت على القمر» بعد استرداد الأرض والنصر المبين فى أكتوبر العظيم وعلاقة حليم ببطل الحرب والسلام بدأت قبل تولى الرئاسة وكان «السادات» هو الراعى الرسمى لرحلات علاج عبدالحليم حافظ، وكان دائم الحضور فى شقته بالعجوزة، حسب رواية محمد شبانة ابن شقيق العندليب نقلا عن والده.. وظلت العلاقة الأسرية ممتدة حتى فى رحلته الأخيرة قبل الرحيل.
أما سيدة الغناء فكانت مطربته المفضلة قبل حكم مصر وبعدها وتوجت غرامه برائعة «بالسلام إحنا ابتدينا» رغم أن أم كلثوم قدمتها بعد مبادرة عبدالناصر للسلام فى الأمم المتحدة.
ومن أبرز ملفات التاريخ الغنائى للرئيس المبدع المطربة سعاد محمد التى أطلق عليها مطربة السادات وكانت من المطربين المفضلين لديه وتقول إحدى الروايات إنه تدخل لمواصلة حفلتها الغنائية على الهواء بينما كان يشاهدها وهى تشدو أروع أغنياتها بقى عايز تنسانى وأغنيات فيلم «الشيماء» أثناء محاولات إسدال الستار عليها وهى تغنى.
أما العلاقة الأروع وتعكس ولع الرئيس بالغناء فهى إعجابه بصوت المطربة الراحلة «فايدة كامل» وكانت عضو مجلس الشعب وزوجة اللواء النبوى إسماعيل وزير الداخلية ولخصت إعجابها بزعيم الحرب والسلام بأغنية نادرة من ألحان محمد عبدالوهاب وتحمل عنوان «يا سادات» وتقول:
«كلمة الحب الغالية ينطقها القلب ينور ولما سمعناها منك فى قلوبنا كانت أنور».
تسلم وتعيش فى قلوبنا، يا رئيسنا وربنا وياك يا سادات».
إله الحرب والسلام.. عند المصريين فى العصر الحديث وكل العصور «محمد أنور السادات» وغرامه بالمبدعين وقوى مصر الناعمة سبقت عصرها كقوى عظمى كانت هى الشعلة الأولى لثورة 30 يونيو خلف خير أجناد الأرض للقضاء على قوى الظلام والإظلام.. لتحيا مصر «أم الدنيا».