
عاطف بشاى
لجنة «استنهاض الهمم»
عادت عصا الوصاية على الأخلاق الحميدة.. والفضيلة المنتهكة والتى تبكى وتنتحب حزنًا على ما آل إليه حال الفن فى بلادنا من الابتذال والسفه، أدى إلى تراجع فى القيم المرعية والمبادئ الراسخة.. عادت تلك الوصاية فى محاولة لفرض وجودها من جديد..
فلم يكد المخرج الكبير «محمد فاضل» يستقيل من رئاسة اللجنة البائسة المنبثقة عن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام لوضع معايير أخلاقية ملزمة للدراما بعد هجوم كبير من نخبة المثقفين المستنيرين.
وبعد أن انتبه أنه أكبر كثيرًا من أن يزج بنفسه ناظرًا لمدرسة رقباء جدد مضافين إلى رقباء المصنفات الفنية وعميدًا لأكاديمية الحث على مكارم الأخلاق والإبداع النظيف.. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. معلنًا أنه لم يجد استجابة لتفعيل آليات القرارات الصارمة لردع الانفلات الأخلاقى.
ولم نكد نتنفس الصعداء حتى برز الفنان الكبير «محمد صبحى» بديلًا يرفع راية استكمال المسيرة والتى استلزمت أن يضع لهذه المهمة عنوانًا براقًا هو «استنهاض الهمم».. وهو تعبير بلاغى حماسى مطاط مثله مثل الكثير من الأكلشيهات التى تتردد فى حياتنا وتصبح بمرور الزمن من المسلمات الراسخة المتعاقبة حقبة بعد حقبة.. وجيلًا بعد جيل.. لكنه فى النهاية مصطلح يحاول الهرب من إعلان فرض الرقابة على الإبداع باستخدام هراوة الوصاية الغليظة.. لمحاكمة الفن محاكمة «أخلاقية» إلى تفسيره تفسيرًا وطنيًا لرفعة شأن أمتنا وازدهارها تحت عباءة فنون راقية مؤدبة تسهم بتوجهاتها الخطابية المباشرة فى نهضتنا المزعومة.. والتى تتسلح بالسجايا العطرة من سماحة الخلق التى تنبذ كل بذاءة فى القول وابتذال فى الفعل وقبح فى الرؤية.
والحقيقة أن تلك اللجنة سواء كانت برئاسة «فاضل» أو «صبحى» فإنها تذكرنا بما سبق أن حدث فى اجتماع رئيس الوزراء السابق «محلب» بمجموعة من السينمائيين والفنانين لمناقشة أزمة وقف عرض فيلم «حلاوة روح» والتى انتهت إلى إقرار استمرار الإيقاف مع تشكيل لجنة من قبل رئيس الوزارء لإعادة النظر فى الفيلم.. كما طالب رئيس الحكومة بضرورة حذف المشاهد التى تسببت فى غضب الناس فى الشارع المصرى من الفيلم.. والدعوة تحمل فى ظاهرها النقاش الديمقراطى.. أما باطنها فيحمل رغبة فى استقطاب الفنانين فى اتجاه الموافقة على وصاية الدولة على الفن.. وعلى تقليص حرية الإبداع.. حيث تبارى فى الاجتماع الفنانون- للأسف- فى الإشادة بقرار رئيس الوزراء، فأكد «محمد فاضل» أنه متفائل بما تم خلال الاجتماع من مناقشات بين «محلب» والفنانين وشعر باهتمام الدولة بالفن المصرى وحرصها على أن يظهر بصورة إيجابية وأن يرتقى للمستوى المطلوب.. وأنها تعى دور الفن.. وأنه على رأس الأولويات فى أى برنامج انتخابى قادم.. بل إن الفنان «محمد صبحى» أكد وهو يختنق بالدموع تأثرًا أنه لو لم يصدر رئيس الوزراء هذا القرار لكان أول من هاجمه.. لأنه يحمى حفيده الذى ضبطه متلبسًا بالبحث فى النت عن الفيلم لمشاهدته.
والحقيقة أن هذه الدعوة التى تحمل لواء تهذيب الفنون وضرورة ضبط وتقنين وضع الشروط الواجب توافرها لفرض السينما النظيفة و«الدراما المعقمة» والمسرح «التقى» و«الموسيقى الفاضلة».. وجميع الفنون التى تتمتع بالاستقامة والحياء انتصارًا للخلق القويم وحماية من اجتراء الفكر الانحلالى عليها واعتداء الملاعين من الفنانين والفنانات إخوان الشياطين على ثوبها الطاهر.. هذه الدعوة خاطئة.. ذلك لأن الأعمال الهابطة لا يمكن تصنيفها فى النهاية باعتبارها أعمالًا فنية.. فالفن منها براء.. فهناك مثلًا فيلم جيد.. وفيلم رديء.. مسلسل يحتوى على مضمون جيد.. ومسلسل تافه.. لكن لا يجوز أن نصنف الفيلم بأنه فيلم «حلال» أو فيلم «حرام» أو مسلسل «مؤمن» ومسلسل «كافر».
إن الخطاب الفنى هو خطاب جمالى.. وليس خطابًا أخلاقيًا فالفنون تخضع لمعايير ومدارس ومناهج فلسفة الجمال.. ونظريات فلاسفتها المتنوعة والمختلفة والمعقدة.. والتى لا علاقة لها من قريب أو بعيد بقواعد وشروط «القيم» الأخلاقية لأسباب مختلفة.. إن الفن يمثل عالمًا خياليًا غير واقعى.. وشخوصه يجسدها خيال مؤلف.. هو الذى يعطيها من روحه سر وجودها.. وبالتالى فإن سلوكها له منطقه الخاص الذى قد يتوافق مع الأخلاق المرعية أو يتناقض معها.. ولو طبقنا عليه الشروط الأخلاقية لقتلنا الإبداع.. وقضينا على سحر الفن الحقيقى.. وعمقه الأخاذ.. وحرقنا كل أعمال «شكسبير» و«ديستوفسكى».. و«أبسن» و«نجيب محفوظ» و«يوسف إدريس» وكل المبدعين الكبار الذين لا تحتوى أعمالهم فقط على شخوص خيرة وفاضلة وسمحة وطيبة ومحترمة.. بل إن بها أيضًا أشرارا وقتلة ومجرمين وأفاقين ولصوصا وشواذا وساقطات.. وقد تنتهى الرواية أو القصة أو المسرحية أو الفيلم أو المسلسل دون أن ينالوا لا عقاب السماء ولا عقاب الأرض.. ولا عقاب القانون.. بل قد يكافأون.. فيصعدون سلالم النجاح.. ويصلون إلى ذرى المجد.. وثمة لوحات لفنان تشكيلى أو تثمال لنحات يمثل امرأة عارية رسمت لتعبر عن بؤس إنسانى أو تجسد ملمسًا بشريًا.. أو معنى ميتافيزيقى يتجاوز حدود الواقع المرئى ويسمو فوق ثقل المادة.. وثمة قبلة سينمائية متبادلة بين بطل وبطلة تمثل حبًا طاغيًا.. وحنوًا دافقًا.. وعطفًا باديًا.. ورحمة باطنة.. وإحساسًا مرهفًا بحب الحياة والطبيعة والوجود.>