مُجَمَّع الديانات القديمة فى الواحات البحرية
أضافت الاكتشافات الأثرية إلى الواحات البحرية سحرًا إلى سحرها فصارت قبلة للسياح من مختلف أنحاء العالم وعروس صحراء مصر الغربية، فهى ذات تاريخ ثرى وتطور طبيعى منذ أقدم العصور، وآثارها ومواقعها من أهم الآثار وأشهر المواقع بامتياز، وهى أمل مصر فى السياحة فى الصحراء الغربية، خصوصًا السياحات القصيرة وسياحة السفارى والسياحة البرية والخدمية والترفيهية والجوية والترانزيت والعلاجية التى تستغل المناظر الطبيعية فى السياحة خصوصًا النفسية منها وغيرها.
موقع الواحات البحرية فى صحراء مصر الغربية على بعد 420 كم من القاهرة، منحها مساحة من الهدوء والاستقلالية ولمن لا يعلم فهى تتكون من واحات القصر ومنديشة والباويطى والحيز وتتبع محافظة الجيزة وعاصمتها هى مدينة الباويطى، وتعتمد فى اقتصادها على زراعة وتجفيف البلح وزراعة الزيتون والسياحة، وبها مجالات عديدة من الحرف التقليدية والمقتنيات الأثرية والبيئية والصناعات الصغيرة، وبها أيضًا عدد ليس بالقليل من الفنادق الصديقة للبيئة.
ويعد تاريخ الواحات البحرية سجلًا بشريًا وإنسانيًا ثريًا، وقد كشفت الحفائر الأثرية التى أُُجريت فى منطقة الحيز- شمال عاصمة البحرية مدينة الباويطى- عن أن المنطقة كانت مأهولة بالسكان فى منتصف عصر الهولوسين الجيولوجى، وأن أهل الواحات البحرية عاشوا بالقرب من البحيرات التى كونها المطر.
شهد عصر الدولة الوسطى فى مصر القديمة تزايدًا ملحوظًا فى الأنشطة والعلاقات بين أهل وادى النيل وأهل صحراء مصر الغربية. وبدأت الأسرة الثانية عشرة بحماية حدود مصر الغربية عن طريق بناء سلسلة من الحصون. وجاءت أهم الإشارات إلى الواحات فى نهاية عصر الانتقال الثانى على لوح الملك كامسن حين أشار إلى البحرية فى أحد نصوصه من عصر الهكسوس الذى ربما توقفت فيه التجارة بين وادى النيل والواحات لافتقاد الأمن.
واستمرت أهمية الواحات البحرية فى عصر الدولة الحديثة كإحدى النقاط الاستراتيجية والعسكرية على حدود مصر الغربية. وعٌين أحد أبناء البحرية المدعو إمنحتب حوى كحاكم إقليمى وتنسب إليه أقدم المقابر المكتشفة فى الواحات البحرية. وتعتبر مقبرة إمنحتب حوى حاكم الواحات البحرية من أهم الآثار التى تعود إلى تلك الأسرة. وقد ذكر أكثر من مرة على جدران مقبرته أنه من أهل الواحات وربما كان ذلك سببًا فى أن يدفن فى تلك المقبرة فى موطنه الأصلى. وتقع المقبرة على مقربة من قرية القصر. وأشار الملك رمسيس الثانى إلى البحرية فى معبد آمون بالأقصر على أنها مكان مقدس.
وعانت الواحات البحرية فى الفترة التى تفصل بين نهاية حكم الفرس لمصر ومجىء الإسكندر الأكبر لمصر مثلها مثل باقى الأراضى المصرية. وعادت أهميتها تبرز من جديد بمقدم الإسكندر المقدونى والذى صور يقدم القرابين للإله آمون فى معبده. وتعود أسباب إنشاء هذا المعبد ونسبته إلى الإسكندر الأكبر إلى زيارة الإسكندر الأكبر الشهيرة لمعبد الوحى فى سيوة لاستشارة الإله آمون عن من قتل والده.
وقاد الامبراطور الرومانى هادريان قوات حربية إلى الواحات البحرية. وعثر على خريطة تبين وجود معسكرات القوات الرومانية فى عدة مناطق بالبحرية مثل الحيز. ووصلت البحرية إلى أوج ازدهارها فى العصر الرومانى وتمت زراعة القمح الذى كان يصدر بكثرة إلى العاصمة روما.
وفى العصور المسيحية ذكرت الواحات البحرية مرارًا فى التراث المسيحى وتاريخ الكنيسة القبطية المصرية ووُجدت آثار مسيحية فى القصر والباويطى ومنديشة والحيز. وكذلك استمر ذكرها فى العصور الوسطى قبل دخول الإسلام مصر. وبعد دخول الإسلام إلى البحرية وزارها عدد من الرحالة فى القرن التاسع عشر.
آثار الواحات البحرية
وتحفل الواحات البحرية بعدد كبير من المقابر والمقاصير والمعابد والمعالم الأثرية المتميزة ، وتعد مقبرة إمنحتب حوى من أقدم مقابر الواحات البحرية. وحُفرت مقابر الواحات البحرية فى الصخر الرملى المحلى . وكان لطبيعة المنطقة السبب فى تفرد تلك المقابر حيث تميزت بأن حجراتها ذات أسقف مقبية. وتتكون المقابر غالبًا من صالة ذات أعمدة وحجرات صغيرة جدًا فى أركانها.
وحفرت مقبرة جد آمون إيوف عنخ فى الحافة الشرقية لمدينة الباويطى وتدعى قارة قصر سليم. ولم يتبق من المقبرة سوى حجرة الدفن التى يمكن الوصول إليها عن طريق بئر. وكسيت جدران حجرة الدفن بطبقة جص ملون بلون أصفر.
وتقع مقبرة باننتيو إلى الغرب من مقبرة والده جد آمون إيوف عنخ بحوالى خمسة عشر مترًا. ولم يعثر على أية آثار للمقصورة العلوية. وطول البئر حوالى ستة أمتار، وأسفلها مدخلان، أحدهما يفتح ناحية الجنوب، بينما المدخل الآخر فى الناحية الشمالية يؤدى إلى حجرة الدفن الأساسية. وتتكون المقبرة من صالة ذات أعمدة وثلاث حجرات جانبية، واحدة منها فقط هى المنقوشة وهى الحجرة الأساسية المواجهة للمدخل.
واختفت مداخل مقابر قارة الشيخ سوبى منذ أن اكتشفها الدكتور أحمد فخرى فى النصف الأول من القرن العشرين؛ حيث بنيت فوقها منازل حديثة بمدينة الباويطى. ونجد أن أربع من تلك المقابر موثقة ومؤرخة بواسطة الدكتور أحمد فخرى فى كتب عدة، وهى مقابر لها أهمية تاريخية مميزة فى الواحات البحرية.
ويفتح مدخل مقبرة بادى عشتار ناحية الشمال. ويمكن الوصول إليها عن طريق بئر مغلقة من أعلى. وتتكون المقبرة من صالة بها أربعة أعمدة وثلاث حجرات، ويرقد التابوت بين الأعمدة، والصالة ذات سقف مقبب. وسدت الحجرة الداخلية بكتل من الأحجار. وجدران البئر مكسوة بجص لكنها غير مزخرفة، وفى الصالة ذات الأعمدة، أول المناظر، وكل جوانب الأعمدة الأربعة مكسوة بجص ومزخرفة أيضا.
قصر علام
عرف الدكتور أحمد فخرى قصر علام بأنه قلعة حربية رومانية. وقصر علام عبارة عن مبنى ضخم من الطوب اللبن. وإلى وقت قريب ظل العلماء على هذا الاعتقاد ويستشهدون به عند الحديث على وجود الرومان وثأثيرهم القوى فى الواحات. وكان يعتقد أن قصر علام يرجع إلى العصر الإسلامى وتم ترميمه من قبل قطاع الآثار الإسلامية والقبطية فى المجلس الأعلى للآثار. ثم أرسل المعهد الفرنسى للآثار الشرقية فريق بحث للعمل فى تلك المنطقة، وبفحص الفخار الموجود حول المنطقة وداخل نطاق القصر أدرك الفريق الفرنسى أنه يرجع إلى عصرالأسرة السادسة والعشرين. وتعد وظيفة القصر غير معلومة إلى الآن ولكن ضخامة المبنى وروعة التصميم تشيران إلى أنه يخص مؤسسة مهمة كانت لها سيطرة على المصادر الاقتصادية شمال الواحات البحرية، كما أن الأختام التى عثر عليها فى الموقع تشير إلى أن البضائع كانت تُخزن بنظام وتتحكم فى تخزينها إدارة ربما كانت ملكية أو محلية أو كهنوتية. وربما تثبت الدراسات المستقبلية أنه كان لهذا القصر صلة بطبقة الحكام أصحاب المقابر وبناة المقاصير من الأسرة السادسة والعشرين.
مقاصير عين المفتلة
وتعود مقاصير عين المفتلة الأربع إلى عصر الأسرة السادسة والعشرين الصاوية، أى إلى نفس الفترة التى ترجع إليها المقابر. وأشرف على بناء هذه المقاصير الكاهن شبن خونسو ثم أكملها من بعده حاكم الواحات البحرية جد خونسو إيوف عنخ فى عهد الملك أحمس الثانى (أمازيس). وتقع هذه المقاصير بالقرب من قرية القصر القريبة من الباويطى. وسميت تلك المنطقة بعين المفتلة نظرًا لقربها من عين مياه تسمى بعين المفتلة تقع إلى الشمال الشرقى من المقاصير، وهى تعد من أهم عيون المياه الطبيعية فى البحرية.
بالقرب من مقاصير عين المفتلة، عُثر على معبد صغير للإله بس، أحد الآلهة المنزلية الحامية وإله المرح. ويتكون المعبد من عدد من الحجرات التى ربما كانت مخصصة للأعياد. وجاء من هذا المعبد أكبر تمثال من الحجر الرملى للإله إلى الآن وهو بالمتحف المصرى بالقاهرة .
معبد الإسكندر الأكبر
يعد معبد الإسكندر الأكبر هو المعبد الوحيد الذى خُصص لهذا الفاتح المقدونى العظيم فى مصر إلى الآن. ويصور على جدرانه الإسكندر الأكبر مقدما القرابين للإله آمون الذى كان أحد أهم الآلهة المصرية التى عُبدت فى الواحات البحرية فى العصر اليونانى-الرومانى. ولعل بناء هذا المعبد يعد تخليدًا لذكرى مرور الإسكندر الأكبر بالبحرية فى طريقه لمعبد الوحى فى واحة سيوة.
وادى المومياوات الذهبية
نجح الدكتور زاهى حواس وبعثته الأثرية فى الكشف عن واحد من أهم الاكتشافات الأثرية فى القرن العشرين بالكيلو 6 طريق البحرية الفرافرة. وأذهل الكشف العالم أجمع منذ لحظة اكتشافه إلى الآن. ويجىء هذا الاكتشاف ليلقى الضوء على فترة مهمة من تاريخ مصر فى بداية العصر الرومانى، محاولاً تكثيف بؤرة الضوء على منطقة الواحات البحرية. وأحدثت المصادفة البحتة هذا الاكتشاف، عندما غيّر حمار الشيخ عبد الموجود، حارس معبد الإسكندر الأكبر، طريق عودته الليلية بعد انتهاء نوبة حراسة صاحبه، فغاصت قدما حماره فى حفرة، فهبط الشيخ عبد الموجود من على حماره ليستطلع الأمر، فنظر فيها فلم ير غير شىء يبرق فى الظلام، فذهب إلى مدير آثار الواحات البحرية، ليخبره بما رأى، ولم يكن هذا الذى رآه الشيخ عبد الموجود سوى قناع ذهبى يغطى وجه مومياء، ومن هنا جاءت تسمية الوادى باسم وادى المومياوات الذهبية.
وقام أثريو الواحات البحرية بإجراء مسح أثرى أولىّ للموقع المكتشف، فتأكدوا من صدق كلام الشيخ عبد الموجود وحقيقة الاكتشاف، فأخطروا الدكتور زاهى حواس. ثم بدأت أعمال الحفائر العلمية المنظمة، فكشفت النقاب عن عدد هائل من المومياوات الذهبية، جعل المكتشف الدكتور حواس يرجح امتلاء هذا الوادى بعدد كبير منها يقدر بحوالى عشرة آلاف مومياء ذهبية، فى مساحة مكانية كبيرة، تستغرق زمنًا طويلاً من أعمال الحفائر المنظمة تبلغ حوالى خمسين عامًا؛ فلم يكتشف فى المواسم السابقة سوى 250 مومياء.
تعود المومياوات المكتشفة إلى القرنين الأول والثانى الميلاديين، عندما كانت مصر تحت الحكم الرومانى. وتظهر هذه المومياوات المكتشفة، استمرارية الديانة المصرية فى هذه الفترة على الرغم من وجود المعتقدات اليونانية والرومانية الخاصة بالطبقة الحاكمة، التى تأثرت بدورها بالديانة المصرية القديمة، وأغلب هذه المومياوات المكتشفة ذات أقنعة وصدور مذهّبة ومزخرفة بنقوش هيروغليفية ورسومات دينية.
واختتم مؤكدًا أن الواحات البحرية هى أمل مصر فى السياحة فى القرن الحادى والعشرين. ويعد التعريف بها وآثارها فى جميع أنحاء العالم من خلال كل الوسائل الممكنة هدفًا مهمًا لزيادة الرواج السياحى لتلك المنطقة الأثرية والسياحية المهمة. وفى ظل اهتمام الدولة بصحراء مصر الغربية من أجل تنميتها وتعميرها، لابد من اتخاذ عدد من الخطوات المهمة مثل تمهيد الطرق المؤدية للأماكن الأثرية وإعداد الأماكن الأثرية للزيارة والتسويق السياحى لهذه المواقع الأثرية والسياحية وإنشاء عدد أكبر من الفنادق المتنوعة خصوصًا الصديقة للبيئة، غير أنه كى تتحقق هذه الأهداف، لابد من الاهتمام الكامل بالواحات البحرية وتأهيلها بالشكل الذى يليق بها حتى تصبح عاصمة مصر السياحية فى الصحراء الغربية بحق وحتى تصير عن جدارة قبلة السياحة العالمية الوافدة إلى مصر أم الدنيا صاحبة التاريخ والحضارات.