
عاطف بشاى
الإرهابى فى أعماقنا
كنت لا أعرف معنى .. أو أفهم منطق تلك المانشيتات المتواترة التى تعقب كل حادث مروع يصيبنا، وهى تلك الشعارات التى تزف لنا بكلمات واثقة وعبارات يقينية راسخة البشارة بأن الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة، وفى الغد القريب تعلن اندحاره وغيابه إلى الأبد فى مزبلة التاريخ وتعود بلادنا آمنة تنعم بالسلام. وتتفرغ لتحدياتها الحضارية فى التنمية الشاملة التى تحقق الرخاء والرفاهية لشعب كابد كثيرًا من ويلات المتآمرين.. وأحقاد الأعداء ومؤامرات أهل الشر والبغى.
فمثلاً فى حادثة المذبحة الدموية التى حصدت أرواح (209) مصريين فى مسجد الروضة بوحشية فى مشهد لم تشهد له مصر مثيلاً فى تاريخها الحديث.. ظهرت المانشيتات الصحفية تقول: هذه هى بداية النهاية للإرهاب مدفوع الأجر.. إنه بهذا الاستهداف للعابدين الركع الساجدين يكون قد كتب بيديه السطر الأخير فى حكايته.. إذ كيف تدافع عن الدين وأنت تقتل المؤمنين به.. وهم يتعبدون خاشعين؟!.. إن استهداف المدنيين دليل على هزيمة تلك البشارة.. وإلى أى معارف أو ثقافة تستند لا تجد سوى تبرير متهافت لا يغنى ولا يسمن من جوع مفاده أن تلك المذبحة الدموية إنما هى تفسر نفسها بنفسها دون عناء منا.. ودون الخوض فى تفاصيل متضاربة من التأويلات المختلفة أو الأطروحات المتباينة.. أو الجدل المرهق الذى يعتمد على الاستبطان والاستقراء والتحليل والاستنتاجات المختلفة، فلب القضية يشير بجلاء وسطوع إلى أن ذلك الانتقال الدموى الوحشى يعكس على المهزوم وإفلاسه.. وعجزه من بطش قواتنا المسلحة الباسلة بخفافيشه الظلامية المجرمة.
لكن الحقيقة أن الضربات الموجعة المتتالية لأوكار الإرهابيين والتضافر العظيم بين نسور قواتنا المسلحة وأبطال شرطتنا الباسلة ليست المنوطة أو المسئولة بمفردها عن القضاء التام على إرهاب الإرهابيين حتى إعلان زوال دولتهم الباغية.. فإحباط محاولاتهم الإرهابية المتكررة لا يعنى تغيير خطط وأساليب واستراتيجية تلك الجماعات ولا يعنى قرب زوال دولتهم.
لذلك فقد أسعدنى وأثلج صدرى خطاب الرئيس «عبدالفتاح السيسى» خلال الندوة التثقيفية التاسعة والعشرين للقوات المسلحة فى الأسبوع الماضى.. والذى أكد فيه أن معركتنا مع الإرهاب ما زالت قائمة ولن تنتهى بعد.. فنحن نخوض تلك المعركة منذ (6) سنوات والأمور لم تهدأ وأدوات المعركة اختلفت عما كان عليه الوضع فى عام (73) فى مواجهة قواتنا المسلحة للعدو الإسرائيلى تختلف عن مواجهة اليوم مع الإرهاب.. حيث كانت المعركة وقتها واضحة المعالم.. حيث كنا نعرف الخصم.. نواجه عدوًا نعرفه ويعرفنا، أما الآن فالعدو يوجد بيننا وقد غير وضعه ليصبح من داخلنا.. لقد تم تكوينه من خلال زرع أفكار مغلوطة عن الدين.. أصبح العدو يعيش بيننا ويقتات بقوتنا.
ذكرتنى العبارة السابقة بفيلم أمريكى هو «الكره» بطولة الممثل الفذ «داستن هوفمان» وإخراج «بارى ليفنسون».. كتب عنه الناقد البارع «عصام زكريا» مقالاً تحليليًا عميقًا.. والفيلم تدور أحداثه داخل غواصة فى أعماق البحر بها عدد من العلماء.. وفجأة يهاجمهم وحش رهيب كأنه قدر لا خلاص منه.. ما نلبث أن نكتشف أنه ليس سوى مرآة نفسية تعكس مخاوفهم ورعبهم الإنسانى من المجهول.. ومن قسوة الاغتراب ومن غموض الرحلة.. هذه المرآة تكشف كما يرى الناقد أن الإرهاب أقرب إلينا من حبل الوريد.. وربما يسكن بيوتنا ويقاسمنا الفراش.. وربما يخرج من عقولنا (نموذج هشام عشماوى الذى كان ضابطًا مع الشهيد أحمد المنسى فى وحدة واحدة.. لقد تجاور الوطنى الباسل مع الإرهابى العتيد).
ويقول «عصام» إن أسوأ أنواع الرعب – كما علمتنا السينما – هو الذى يسكن أعماقنا .. ويعزو الإرهاب فى أسوأ صوره إلى أسبابه المتصلة بالجانب النفسى.. حيث تكمن بذوره فى تعقيدات وعقد الطفولة التى يمكن أن تظل كامنة.. لسنوات طويلة قبل أن تنفجر فجأة.. عقد تتراوح من انتهاك الطفولة والجسد بشتى الأنواع.. وتصل إلى الكبت الجنسى الشديد.. والذى يصبح فيه العالم مجرد شيطان للغواية.. كما تشمل الجذور فى الشعور القهرى بالدونية الناتجة عن قرون من الاستعمار والتخلف مصحوبًا بخطاب جنون العظمة ناتجة عن الاعتقاد بالتفوق الأخلاقى والدينى والعرقى.. لذلك فلا غرابة أن تظهر فجأة نماذج بشرية كمتطرفين ينضمون إلى تنظيم «داعش» الإرهابى فى الوقت الذى ينتمون فيه إلى شرائح اجتماعية ميسورة لا تعانى من شظف العيش.. ولديها ما يجعلها لا تقع فريسة الاستقطاب المادى أو العنف للانتقام من مجتمع ظالم وكافر - من وجهة نظرهم - يعانيان فيه من الفوارق الطبقية والقهرة وانعدام العدالة الاجتماعية والبطالة.
ومن هنا فإن الإرهابى مريض.. لكنه لا يملك «مرآة نفسية» يرى نفسه من خلالها.. وإن وجدها فلن يستطيع أن يصل إلى حقيقة معاناته وآلامه النفسية التى جعلت منه هذا الكائن البشع لأنه يحتاج إلى علاج على يد طبيب متخصص.
لذلك فإن الرئيس فى خطابه الأخير الذى يطالب فيه النخب والمثقفين والإعلاميين بـ التوعية بالصورة الكلية للواقع الذى نعيشه «إنما يدعونا إلى ثورة تنويرية به تطلق سراح العقل من أقبية وكهوف التخلف وكهنوت السائد والمألوف والموروث والنفس الجاهلية والمياه الآسنة بالقبح والتخلف .. والأوراق الصفراء المسمومة بالفتاوى الشاذة والتاريخ الدموى.. وأمراض النفس والعقل التى تفرز وحوشًا آدمية مشوهة وسيكوباتية».. هذه الثور هى القادرة وحدها على اقتلاع جذور الإرهاب والتطرف.
هى .. وليس شيئًا آخر.