
محمد جمال الدين
الحرام 2018!
بالأمس القريب شعرت كأننى أشاهد صورة طبق الأصل من فيلم (الحرام) المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الكبير الراحل يوسف إدريس، مع فارق بسيط أن بطلة الفيلم العظيمة (فاتن حمامة) التى حملت سفاحًا، ماتت من جراء إصابتها بحمى النفاس، ولكن فى الواقع اتشحت قرية (تل القاضى) التابعة لوحدة صفط زريق المحلية مركز ديرب نجم محافظة الشرقية بالسواد بعد أن خسرت 5 من خيرة سيدات القرية، واللاتى خرجن ضمن مجموعة كبيرة للعمل باليومية، فى جنى محصول القطن، الخط الدرامى للفيلم أو لقصة وفاة السيدات الخمس واحد تقريبًا، قرية فقيرة من قرى مصر مدرجة ضمن القرى الأكثر احتياجًا، معظم أهلها إن لم يكن جلهم يعملون أرزقية وتخرج سيداتها للعمل باليومية فى أراضى الغير أمر طبيعى ومعتاد، ليس له من سبب سوى اضطرارهن للعمل لتوفير لقمة العيش لأسرهن نظرا لمرض الزوج أو وفاته أو لمساعدته فى تكاليف المعيشة، وهى بالمناسبة نفس الظروف التى من أجلها اضطرت (عزيزة) الفقيرة المعدمة، بطلة الفيلم للخروج إلى العمل، ضمن عمال التراحيل عقب إصابة زوجها عبدالله بالكبد نتيجة لتمكن البلهارسيا منه فأصبح غير قادر على العمل، والذى جسد دوره الفنان ( عبدالله غيث ) عملت عزيزة لدى الغير، فطمع أحدهم فى جسدها عندما ذهبت للبحث فى أحد الحقول عن (جدر البطاطا) الذى اشتاق له زوجها المريض، وحدث ما حدث وحملت ثم ماتت بعد أن انكشف أمرها وهى تعمل ضمن سيدات الترحيلة، واقع مظلم أصاب عزيزة مثلما أصاب سيدات قرية (تل القاضى) تتشابه فيه الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وظلم المجتمع لهذه الفئة من السيدات، اللاتى يتمنين أن تنظر لهن الدولة بعين العطف والرعاية بدلاً من النظر إليهن كمواطنين درجة ثانية، هذه الفئة تحديدًا ولمن لا يعرف لا تملك من أمرها شيئًا ولا حتى بطاقة تموين أو معاش شهرى أو أى مصدر للدخل يستندون عليه رغم احتياجاتهم البسيطة التى يعرفها القاصى والدانى، فهم لا يملكون من حطام الدنيا سوى طاقية بالية تحمى رءوسهم من أشعة الشمس الحارقة التى يتعرضون لها من الساعة السابعة صباحًا وحتى انتهاء موعد عملهم فى الرابعة عصرًا (منحنيّ الظهر) بخلاف صحتهم التى تهدر فى حقول الغير، ولكنهم يرون من وجهة نظرهم كعمال تراحيل سيدات أو رجال أن جل هذا (يهون) فى سبيل توفير حياة بسيطة آمنة تجنبهم مذلة السؤال، هؤلاء الناس هم ما فطن لهم وأدرك حياتهم وصورها بقلمه (الدكتور يوسف إدريس) فى روايته، التى تعد دراما حقيقية تعبر بصدق عن الريف المصرى منذ نشرت وحتى الآن، بدليل وجود عمال التراحيل فى حياتنا منذ فترات ليست بالقليلة وحتى وقتنا هذا، فى حين أننا اقتربنا من نهاية عام 2018، واقع درامى ملحمى حقيقى جسده على الورق كسيناريو وحوار المبدع الراحل (سعد الدين وهبة)، عمال يضطرون إلى مواجهة الواقع المؤلم الموجود فى مجتمعنا والمستمر، حتى يستطيعوا أن يعيشوا، تتلاعب بهم أمواج الحياة التى لا ترحم وعليهم هم وحدهم دون غيرهم أن يتحملوا نتيجة تبعاتها ومخاطرها، فمن الموت غرقًا إثر انقلاب الجرار الزراعى أو التريسكل الذى يستقلونه، إلى الموت كنتيجة طبيعية لتدهور الصحة نتيجة عدم الرعاية لما يتعرضون له من أمراض من جراء هذا العمل الشاق الذى لا يعرفون غيره يا قلبى لا تحزن، ويكفى أن يقول زوج إحدى ضحايا قرية (تل القاضى): (أنا معاق ولا أتحرك من مكانى وزوجتى الراحلة هى اللى كانت بتأكلنى وتشربنى لهذا ظهرى أتقطم برحيلها)، ومع هذا هم مؤمنون بأن (محدش بيموت ناقص عمر) ولكن تظل الحقيقة الواضحة لكل صاحب عين أن عزيزة فى الفيلم أضاعها الفقر وظلم المجتمع (وجدر البطاطا) وسيدات قرية تل القاضى ضاعت حياتهن أيضًا نتيجة ظلم المجتمع والفقر والبحث عن لقمة العيش، دون أن تنظر لهن الدولة بعين الرحمة أو حتى الشفقة عليهن، مجتمع لايرى فيهن سوى كونهن (عمال تراحيل) كل ذنبهن أنهن يردن العمل بشرف وأمانة لعدم مد اليد، لهذا يأتين للعمل فى الحقول مع طلعة الشمس، ثم يذهبن إلى حال سبيلهن مع نهاية يومهن، واقع مظلم يجسد السقوط الأخلاقى للمجتمع الذى لم يكلف نفسه ولو حتى مشقة السؤال عن أحوالهن وطريقة حياتهن.