
عاطف بشاى
رسالة الفنان عند «توفيق الحكيم»
كان «توفيق» الحكيم مفتونا بإجراء الحوارات بينه وبين عصاته الشهيرة أو بينه وبين حماره الأريب فى مقالات بديعة تحمل الكثير من الحكمة والطرافة وتتميز بالعمق فى طرح قضايا فكرية وفنية وسياسية واجتماعية مهمة.. وفى أحد هذه الحوارات بعنوان «الفن واسع والعقول ضيقة» تتساءل العصا فى حيرة سؤالا مهما يتصل بمهمة الفنان.. أهى أن ينقل الناس إلى دنياه.. أم هى أن يصور دنيا الناس للناس؟!.. أو بمعنى آخر هل وظيفة الفن أن يصنع الفنان من خياله عالما خاصًا يعكس من خلاله رؤيته الخاصة وأفكاره وآراءه وتفسيراته.. وأحلامه فى عالم مختلف يحلم به ويدعو المتلقى إلى مشاركته فيه.. أم أن وظيفة الفن هى مجرد محاكاة الواقع محاكاة «فوتوغرافية»ونقلها إلى المشاهد أو القارئ كما هى بكل تفاصيلها وشخصياتها وأحداثها..
يرى «الحكيم» أن الإجابة عن هذا السؤال الذى كثيرًا ما شغل النقاد والمفكرين على مر العصور.. أن ننظر أولًا فى أمزجة الناس.. فإن فيها العجب.. ويدلل على ذلك بأن فرقة الشيخ «سلامة حجازى» كانت تجوب الحضر والريف بروايات «هللت» و«روميو وجولييت» و«تليماك».. فتلقى النجاح الساحق.. فذهب يومًا إلى الريف برواية عصرية تمثل «العمدة» و«شيخ الخفراء» و«المأذون».. فلم تلق هذه الرواية نجاحًا عند أهل الريف.. فقد سمعوا لغتهم.. ورأوا صورهم على المسرح وخرجوا يقولون ساخطين: أهذه فرجة؟!.. هذا شيء نسمعه هنا ونراه فى كل يوم..
وهذا معناه أن النظارة لا يريدون أن يروا واقعهم كما يعيشونه.. ولكنهم يريدون أن يشاهدوا واقعا آخر لم يألفوه ولم يعرفوه.. ومن هنا فإن هذه الرواية يمكن أن تلقى النجاح الباهر فى العواصم عند المتحضرين.. لأن من أهل المدن من يحب أن يرى صورة أهل الريف.. كما أن العكس صحيح.. وهناك من الناس من يفضل أن يرى صورته فى المرآة.. ومنهم من يؤثر مشاهدة الصور الغريبة عليه.
وبناء على ذلك فإن المشكلة تكمن فى اختلاف أمزجة الناس.
إن الخطأ الحقيقى هو مطالبة الفنان بمراعاة مزاج واحد من بين هذه الأمزجة فى حين أن الفن يجب أن يتسع نطاقه ليشمل كل هذه النزعات فى الإنسان.. فلابد أن يكون هناك الفنان الذى يصور دنيا الناس للناس ليروا أنفسهم فى عمله فيزدادوا معرفة بحقيقتهم.. كما أنه لابد أن يكون هناك الفنان الذى ينقل الناس إلى دنيا أخرى من صنع خياله ليضيفوا إلى حياتهم المألوفة حياة جديدة يتأثر وجدانهم بها وعقلهم كذلك ونفسهم.
عباقرة النقاد عندنا يرددون أكلاشيهات سخيفة لا معنى لها.. مثل كلمة (الذوق العام) التى يستهلكونها فى ابتذال وهم يلصقون بها تعميمات مخلة فيقولون مثلًا : «إفساد الذوق العام» متهمين أفلامًا أو مسرحيات بعينها فى إتيان هذا الجرم بينما فى حقيقة الأمر أن جمهور المتلقين يمثلون رهطًا أو كتلة هلامية من البشر مختلفى الأعمار والجنسيات والثقافات والميول والرغبات.. ويشكلون بيئات اجتماعية مختلفة وتجارب حياتية متنافرة وقيمًا أخلاقية متباينة.. وتركيبات نفسية متعددة وبالتالى لا تجمع بينهم ذائقة فنية واحدة.. وحتى إذا افترضنا أنهم اتفقوا مثلًا على الإعجاب بعمل فنى ما فإنهم يختلفون فى أسباب إعجابهم.. فهناك من يعجب بالقصة والآخر الذى يعجب بروعة الإخراج.. وهكذا.. والعكس أيضًا صحيح..
لذلك ليست رسالة الأديب أو الفنان هى توجيه الرأى العام لأن التوجيه معناه الدفع والفرض والسيطرة.. أى دفع الناس فى اتجاه بعينه.. وفرض رأى بالذات على عقولهم.. والسيطرة بفكرة أو بمعنى على نفوسهم.. وفى هذا انتصار بلا شك لفكرة المفكر أو لرأى الأديب أو لتصور الفنان.. ولكن هذا الانتصار الشخصى هو فى ذات الوقت خذلان لآراء عدد كبير من الناس وفناء لشخصية طوائف عديدة من البشر.. مثل هذا الانتصار على آراء الناس وقلوبهم مفهوم من رجل السياسة لأن وجوده قائم على السيطرة المطلقة على المجموعة لكن الأديب أو الفنان رجل تكوين وتربية وخلق وخيال.. لا رجل سيطرة وانتصار فهو يجب ألا يلبسك رأيه بل يجب أن يخلق فيك رأيك.