الحكاية كلها رزق
تُسعِدُنى وتمتِّعُنى حالة التسابق السنوى فى الفترة من 17 سبتمبر إلى 7 أكتوبر، التى يليق أن نطلق عليها «أيام بليغ حمدى»، فبين التاريخين ذكرى وفاته عام 1993، وميلاده عام 1931، تنطلق الحفلات الموسيقية، وتتبارى وسائل الإعلام ويتقدمها الإعلام الرسمى فى إعادة تذكير جمهوره وعشاقه بإبداعاته وموسيقاه الخالدة.
لقد مر ربع قرن على رحيله، وما زالت موسيقاه تلقى الشغف الذى أحاط به حيًّا، والوهج الذى لازَمَه خلال رحلته الفنية، وبقيت ألحانه فى مقدمة الأعلى استماعًا كما أنها الأعلى إيرادًا وفق تقديرات جمعية المؤلفين والملحنين المصرية.
تزامنًا مع هذا الاحتفاء، أعدت قراءة رواية «بليغ» الصادرة عام 2017 للمؤلف طلال فيصل، والتى توجت أسطورته وأتمَّتْ ملامح خلود قصته بعد أن سبقتها ألحانه وحُفِرت لها وشم خالد فى أعماق الشخصية المصرية، فأصبح بليغ حمدى هو الأكثر قربًا إلى لقب «فنان الشعب».
ذيلت «دار الشروق» ناشر الرواية، غلافها الخلفى بهذه الكلمات الدالة والموحية: «يدور الكثير من أحداث رواية (بليغ) بين باريس ومصر، ليخرج لنا المؤلف رواية تنتمى للوقائع الحقيقية وللبحث التاريخى، بقدر ما تنتمى لخيال كاتبها ورؤيته».
والرواية متميزة ونجاحها عكس حالة العشق الصادقة للموسيقار الراحل، وفى ظنى أن رواية «بليغ» كانت رحلة ناجحة بين أطلال زمانه، وإبحارًا ممتعًا ومثيرًا فى عبقرية ألحانه، ومتاهة حقيقية فى تفاصيل هذا الإنسان.. البسيط الرائع.. الصوفى الضائع.. بليغ حمدى.
الكتاب «الرواية» فيه جهد راقٍ لتحليل ملامح عبقرية بليغ، والكشف عن الدور المحورى للمرأة فى حياته، الذى تجلَّى فى بطلتين، هما سيدة الغناء العربى أم كلثوم، والمطربة الكبيرة وردة الجزائرية، الأولى منحته أمومةً فائقةً أنضجت تجرِبتَه ومنَحَتْ موسيقاه بطاقةَ المرور إلى كل القلوب العربية، والثانية منحته الإحساس الصادق الذى خلق جسرًا مباشرًا بينه وبين نهر الإبداع فتدفقت ألحانه.
لقد أمتعتنى الرواية كعمل متكامل بما حَوَتْه من خط موازٍ لقصة «بليغ»، قدم فيها طلال ذاته عبر «حبكة» مماثلة لما قُدِّم بها بليغ، مزجًا واعيًا بين الواقع والخيال بما يجعلك تتعايش مع كلا الشخصين وتذوب فى حياتهما، مدمجًا خيالك وواقعك الشخصى مع سيرتهما، غير منشغل بالسؤال التقليدي: أين توقف الواقع، ومتى كان ما يقال خيالًا؟! وأكثر ما أمتعنى فى الرواية هو توقُّفى المتكرر بحثًا عن أغنية قام المؤلف بالتعرض لها وتشريحها فنيًّا، لأعيد الاستماع إليها من جديد كأنى أسمعها للمرة الأولى، وبعضها بالفعل كنت أسمعه لأول مرة، وأعيد تذوقه واكتشاف مناطق جديدة فى السيرة الإبداعية لهذا الملحن الفذّ.
وسواء كانت قصة مذكرات بليغ التى أوردها المؤلف ضمن روايته، حقيقة أم خيالًا، فقد شكلت حجر زاوية فى ترسيخ الأسطورة كما سَجَّلها التاريخ والتقطَها المؤلف ببراعة، وأعاد تشكيلها ليضعها أمامنا فى أبهى صورها، وأجمل ما سجله بليغ فى هذه المذكرات كانت تلك الكلمات: «الواحد يبقى عبيط لو حسب أنها بشطارته.. الحكاية كلها رزق.. العطاء رزق.. الحب رزق.. والموسيقى رزق.. حتى الألم يمكن علامة رضا.. علامة افتكار».
الله يرحمك يا بليغ!