الخميس 10 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
هيبة الكنيسة

هيبة الكنيسة


ما إن انتشرت عبارة «الحفاظ على هيبة الكنيسة» حتى صار أكلاشيهًا متداولًا على ألْسِنَة العامة من المسيحيين نقلًا عن الأساقفة والقساوسة فشمل كل المجالات.. وجميع أنشطة الحياة التى ترتبط من قريب أو بعيد بالكنيسة فى خَلط شائن بين المسيحى والمسيحية وما هو مقدس وما هو غير مقدس.. بين صلب العقيدة وما هو متصل بها من طقوس.. بين ما هو دينى.. وما هو غير دينى..

والأكلاشيه الذى تحوّل إلى شعار مستهلك حتى أصبح ممجوجًا وفارغًا من المعنى أو المحتوى يبرز دائمًا كَحَلّ ناجع وسريع ومريح لأثقال مشاكل تستلزم معالجتها مواجهات شجاعة وجسورة يبدو أن لا أحد ينوى أن يحمل أعباءها أو يتحمل مسئولية فما تبعاتها أسهل أن تقول مثلًا: «النظافة من الإيمان» دون أن ترشدنا إلى كيفية جمع القمامة من الشوارع التى عجزت الحكومات المتعاقبة عن جمعها.. بل الأهم كيف نعالج مفارقة أن تطالب شعبًا من الفقراء فى جمعها للمساهمة فى القضاء على تلك الظاهرة.. بينما بعضهم يأكل منها؟!.. نفس الشىء ينطبق على تلك اللافتة التى تقول يجب «المحافظة على هيبة الكنيسة».. فالمدهش إذن أن تستخدم عبارة مطاطة.. غائمة.. ملتوية ومراوغة.. خادعة وغير محددة تحمل مفاهيم متضاربة دون أن تستند إلى منطق يحكمها أو معايير حقيقية تحدد مغزاها وأهميتها.. بل إن المدهش أكثر أن تستند إلى منطق مغلوط يتناقض مع الفهم السليم أو التوجه الصائب.
فمثلًا إذا كان المسيحى يتخذ من أقوال السيد المسيح المرجع والقدوة فى الحُكم على الأمور.. فالمسيح يقول: «تعالوا إلى يا جميع المتعَبين وثقيلى الأحمال وأنا أريحكم»، وقد ترجم هذا النداء إلى أفعال حقيقية مع الكثير من الرعية فشفى بعضهم من أمراضهم. وغفر ذنب خطاه ومنهم المرابى، وسامح العاهرة.. وزجر من أرادوا رجمها قائلًا: «مَنْ كان منكم بلا خطيئة فليرجُمها بحَجَر»...
لكن لعلنا نذكر أن تلك العبارة «هيبة الكنيسة» قد سبق أن استخدمها الأسقف المسئول عن ملف الأحوال الشخصية فى الكنيسة.. حينما ضاق ذُرعًا بمعارضة ائتلاف لائحة (38) وهجومهم عليه بسبب إلغاء البابا شنودة لها.. وما ترتب على ذلك من كوارث أسرية وانهيارات اجتماعية.. فقد كانت تلك اللائحة الرحيمة تسمح بالطلاق لأسباب ثمانية وجعلها البابا شنودة تقتصر فقط على علة الزنى.. فأطلق الأسقف على المعارضين كلاب الكاتدرائية البوليسية لتفريقهم.. وبرّر فعلته تلك بالمحافظة على «هيبة الكنيسة».. وهو لم يكن قد استوعب بعد أن الدنيا تغيرت- مع اندلاع ثورة (25 يناير) وأصحاب المظالم عرفوا طريق الاحتجاج والخانعين تحوّلوا من محتمين بأسوار الكاتدرائية إلى ثائرين ضدها.. والأيدى التى كانت تمتد بخشوع لتقبيل أياديهم المباركة أصبحت تلوح لهم بغضب.
لكن الأسقف أطلق على (الأعداء) كلاب الحراسة المتوحشة.. ولِمَ لا.. وقد هتك المستضعفون العُزّل أستار القداسة الزائفة التى يتدثر بها بعض رجال الدين.. ومزّقوا أقنعة الوداعة التى يغطون بها وجوههم واعتدوا لأول مرّة فى تاريخ الكنيسة القبطية على كهنوت كانوا يحتمون به لتحقيق هيبة أو نفوذ أو سطوة.. هيبة شخصية.. ونفوذ شخصى.. وسطوة شخصية.
ورُغْمَ أن قداسة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية البابا تواضروس كان حاسمًا وأعلن صراحة ودون مواربة أن الجانى يجب أن يعاقب على جريمته أيّا كان اسمه وموقعه.. وقال فى عظته الأخيرة «عظة كشف الحقائق»: «فى الجرائم ليس هناك شىء للخواطر وليس من صالح أحد التستر على أحد وليس فى الكنيسة شىء يخفيه.. وإيمان المسيح محمى بالمسيح ولا أحد غيره يحمى الإيمان»... والحقيقة أن فى عظته تلك رسالة واضحة إلى المعارضة الممَثَّلة فى جماعة «حماية الإيمان» المناهضة.. وأيضًا موجَّهة إلى الحرس القديم الذى يمثل التيار المحافظ فى الكنيسة والذى يحاول جاهدًا تحقيق أكلاشيه «الحفاظ على هيبة الكنيسة» والذى أعلن بوضوح عن نفسه فى ثنايا حديث الأنبا يؤانس أسقف أسيوط عن الواقعة بقوله إنها سحابة صيف وأنه يصلى من أجل هذه المحنة.. دون أن يدين صراحة المتهم، مطالبًا– على موقعه فيس بوك– الجميع بالتوقف عن مهاجمة القاتل، بل الصلاة من أجله حتى تسنده النعمة الإلهية ويعلن توبته..
لكن البابا الذى يرفع شعارًا مستمدًا من الكتاب المقدس يقول: «تمنطقوا بالحق» أكد أن الإيمان الحقيقى يطهر النفس، والتطهير يعنى كشف العورات وليس إخفاءها.. وهى ليست سلعة تحتاج إلى الحماية.. والحماية فى منهج السلف والمتشددين تعنى طاعتهم.. وفرض وصايتهم فيما يشبه ما يفعله «المطوعون» الذين يرفعون شعار «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»..
والحقيقة، أن الثورة الإصلاحية الشاملة التى أتصور أنها مقبلة لا محالة وبقوة فى الفترة المقبلة بقيادة البابا تواضروس لا بُدَّ أن تنطلق من مقدمة منطقية هى نسف مجموعة المسَلَّمات العتيقة.. والمعتقدات البالية.. والثوابت المتحجرة.. والتصورات الغيبية والتخلف الحضارى.. وفرض الوصاية الدينية.. وخلط الخطاب الدينى بالخطاب الاجتماعى والسياسى والإبداعى.. ورفع رايات المحافظة على «هيبة الكنيسة» واعتبار أن كل ما يتصل بها من أزمات أو مشاكل أو توجهات هو شأن داخلى.. وتصحيح ذلك الخطاب الضار لأنه لا يعنى سوى التعصب المذهبى والدينى.. والانعزال.. بل هو يعنى الإعلاء من شأن الطائفية فوق المواطنة.. فالحقيقة أنها شأن مصرى.. حاول البابا تواضروس أن يؤكد ذلك المعنى منذ جلوسه على الكرسى البابوى حينما تصاعدت أحداث حرق الكنائس فقال.. سوف نصلى فى المساجد.. وفى قول آخر.. سوف نصلى فى الشوارع.. محاولًا أن ينهى أيضًا– طبقًا لهذا المعنى– لجوء المسيحيين إلى الكنائس ومخاطبة البابا عند الأزمات المدنية والاجتماعية لحلها.. وما كان يعنى ذلك باختصار الأقباط فى شخصه.. فالكنيسة المصرية ليست هى البابا فقط.. ومن ثم فإن قرار البابا تواضروس بوقف الرتب الكهنوتية بعد حادثة القتل قرار صائب ومهم، والمعارضون له الذين يصرّون أن الكهنة هم حماة الإيمان.. والرُّسُل ورجال الكهنوت داخل الكنيسة هم المسئولون أمام الله عن إيمان الكنيسة وعقائدها وأسرارها خاطئون.. والحقيقة كما كتب الباحث المستنير «هانى لبيب» ونحن نوافقه فى ذلك تمامًا– أن الكنيسة هى جماعة المؤمنين من المواطنين المسيحيين المصريين لأنه من دونهم لن تكون هناك كنيسة من الأصل، وهو ما يعنى أن انتقاد الكنيسة أو قياداتها ورجالها لا يعنى إطلاقًا فقْد الإيمان المسيحى وبالتالى فإن الثورة الإصلاحية المزمع حدوثها لا تستطيع تحقيق أهدافها ما لم تكن هناك مساحة كبيرة مشتركة بين العلمانيين والمفكرين وأصحاب الإسهامات البحثية.. وبين رجال الدين ورموز المؤسسة الدينية..
الإصلاح بمعناه الحقيقى هو تخليص الكنيسة من الانقسام والتحزُّب وتكريس لمفهوم صار مُلحّا وحتميّا.. إنه ليس هناك ما يُسمَّى بالملائكة الأرضيين من الرهبان وأن الجريمة ليست شأنًا داخليّا خاصّا.. إنما هو شأن وطنى يهم كل المصريين.