الجمعة 25 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
فن اللا مبالاة الذكى

فن اللا مبالاة الذكى


«فن اللا مبالاة» لـ«مارك مانسون» كتاب عميق ومدهش.. جذاب ومثير يغوص فى تحديات الحياة ويتصدى لمعاناة البشر وأسبابها الاجتماعية.. وانعكاساتها النفسية ويخرج بتصورات وأفكار باهرة تخالف الواقع والمألوف.. وفى أحيان كثيرة تخاصم المنطق بحثًا عن السعادة والحرية التى يلخصها فى بساطة آسرة وتستحق التأمل فى جملة واحدة هى معرفة ما يجب الاهتمام به.. بل الأهم هو معرفة ما ينبغى عدم الاهتمام به.. ومن البديهى أن يكون ما ينبغى عدم الاهتمام به هو التفاصيل الصغيرة والأشياء العابرة والإلحاحات المؤقتة والرغبات الطارئة.. والاحتياجات غير الإيجابية.. اللعنة فى التفاصيل التى تتراكم تلقائيّا لتصنع فى النهاية جبلاً من الاهتمامات التافهة التى تفسد الحياه وبمعنى أكثر وضوحًا أن الإنسان إذا ما انتابه القلق فيما يتعلق بمواجهة شىء ما فى حياته.. واستغرق فيه بحث يصبح عاجزًا عن فعل أى شىء فإن الأمر يتحول من التساؤل عن سبب القلق إلى القلق بخصوص ما يتعلق بالقلق.. إنه قلق مزدوج يدفع إلى التعاسة والشقاء.. يُعبر عنه المؤلف بقوله: لنقل إن لديك مشكلة.. ينتابك الغضب بسبب أشياء تافهة ولا فكرة لديك عما يجعلك غاضبًا هكذا.. ثم يبدأ إدراكك حقيقة أنك تغضب بسهولة إلى هذه الدرجة يسبب لك انزعاجًا.. وغضبًا أكثر من ذى قبل.. ثم تدرك فى غمرة غضبك الشديد ذاك  أن غضبك الدائم هذا يجعلك شخصًا ضحلاً لئيمًا.. وأنت تكره هذا كثيرًا.. أنت تكرهه إلى حد يجعلك غاضبًا من نفسك أيضًا.. انظر إلى نفسك الآن.. انت غاضب من نفسك لأنك غاضب من غضبك..»
يريد المؤلف أن يقول لنا إذن.. إننا نشعر بالسوء لأننا نشعر بالسوء ونشعر بالذنب لأننا نشعر بالذنب ونغضب لأننا نشعر بالغضب ونقلق لأننا نشعر بالقلق..
وهذا ما يجعل - من وجهة نظر المؤلف - اللا مبالاة أمرًا حسنًا.. وأن عدم الإفراط فى الاهتمام هو ما سينقذ العالم.. وسوف ينفذه الإنسان ممن خلال قبوله أن العالم مكان سيئ.. لا بأس.. لأن العالم هكذا على الدوام.. وسيظل هكذا على الدوام.. ومن خلال عدم اكتراث الإنسان بأن لديه شعورًا سيئًا.. فإنه يبطل مفعول تلك الحلقة الجحيمية التى تكرر نفسها.. ..» وأنت تقول لنفسك لدىّ إحساس سيئ.. حسنًا.. ما أهمية ذلك.. ثم وكأن أحدًا رشك بمسحوق اللا مبالاه السحرى.. تجد أنك قد توقفت عن كُره نفسك لأنك تشعر بهذا السوء كله..».
عند هذه النقطة أمكننى استنتاج أن مؤلف الكتاب متأثر تأثرًا كبيرًا بفلسفة «البير كامى» الفيلسوف الوجودى الفرنسى الكبير.. وله عبارة مهمة أوردها فى كتابه «المتمرد» يقول فيها: لن تكون سعيدًا أبدًا إذا واصلت البحث عما تتكون السعادة منه..ولن تعيش حياتك أبدًا إذا كنت من الباحثين عن معنى الحياة..
وأظن أيضًا أن هذه المعانى قد طرحها «تشيكوف» الأديب الروسى العظيم فى قصته «عنبر 6» فى مواجهة بين نزيل مصحة للأمراض النفسية وبين طبيبه الشاب المعالج الذى نصحه بما يدافع عنه «مارك مانسون» فى كتابه وكانت الروشتة المختصرة البليغة هى: «عليك بفن اللا مبالاة الذكى»..
المفارقة الصارخة أن المريض صاح ساخرًا ومنفعلاً فى مواجهة الطبيب: لو انحشر إصبعك فى ضلفة الباب فسوف تصرخ من شدة الألم.. وهذا معناه أن الطبيب لو كان يعانى معاناة المريض لما نصحه هذه النصيحة المتهافتة.. بل إن المفاجأة التى أنهى بها «تشيكوف» الصراع فى قصته أن الطبيب أصبح مريضًا.. وصار نزيلاً بالمصحة فى العنبر نفسه الذى يمكث فيه المريض..
لكن «مارك مانسون» الذى يُصر على فكرته مؤكدًا أن أكثرنا يمضى فى الحياه مكافحًا من خلال المبالغة فى الاهتمام بأشياء كثيرة لا تستحق اهتمامنا.. نهتم كثيرًا وننزعج من عامل محطة بنزين الوقح الذى رد إلينا بقية المبلغ بقطع معدنية صغيرة.. وننزعج ونهتم كثيرًا عندما يُلغَى برنامج نحبه فى التليفزيون.. ونهتم كثيرًا مما يجب عندما لا يبدى زملاؤنا فى العمل أى اهتمام بسؤالنا عما فعلناه فى عطلتنا الرائعة.. بينما فى تلك الأثناء تصل ديوننا إلى أقصاها.. ونكتشف أن أخانا الصغير يتناول المخدرات خلسة فى الحمّام لكننا نظل مُصرّين على الانزعاج من القطع النقدية الصغيرة ومن إلغاء برنامجنا المفضل فى التليفزيون.
إن الحل يكمن فى تعلم كيفية تركيز الأفكار وترتيب أولوياتها ترتيبًا فعّالاً.. كيفية انتقاء أو اختيار ما يهمك فعلاً وتمييز ما لا يهمك استنادًا إلى قيم شخصية مدروسة بدقة.. وهو أمر صعب جدّا قد يستغرق عمرًا بأكمله.. لكن من المحتمل أن يكون هذا أهم صراع يستحق أن يخوضه المرء فى حياته كلها... بل لعله الصراع الوحيد فى حياة الإنسان .
أمّا ما يتصل بـ«محمد صلاح» لاعبنا الدولى الذى انتشرت صورته على مواقع التواصل الاجتماعى وهو يطالع الكتاب.. فإنى أؤكد أن الصورة لم تلتقط بدافع دعائى لترويج لفكرة أنه ليس لاعبًا فذا... لكنه أيضًا مثقف أريب.. وأزعم أنه قرأ الكتاب بإمعان وتركيز.. وقرر أن يطبق ما جاء به من أفكار هى خليط من الحكمة والفلسفة والعِلم فى اتجاه التطوير الذاتى... فتخطى كل العقبات التى صادفته... والصدمات التى لحقت به... والحقائق الموجعة لضربه وتشويهه وإهانته.. وذلك بالتجاوز والسمو والارتفاع فوق الضغائن.. والتسامح والمرونة دون أن يتراجع عن مسئولياته أو ارتباطاته... بل تدعيمًا لطموحاته ومستقبله متخليًا عمّا ينبغى الاهتمام به... والاهتمام بما ينبغى الاهتمام به...
وهو الآن ينعم بممارسة «فن اللا مبالاة الذكى» على شواطئ جزر المالديف.