
عاطف بشاى
يا أطفال العالم اتحدوا!
لم يكن «كوكى» يرغب فى تغيير العالم.. فهو يعلم أن التغيير المأمول لن يحدث بين يوم وليلة فالمعهود أن أجيالاً بأكملها تضحى بحياتها من أجل أن تنعم أجيال لاحقة بثمار ذلك التغيير.. ورواد التنوير غالبًا ما يعيشون ويموتون وهم يقبعون فى غياهب التجاهل والنسيان.. أو الجحود والاضطهاد، بل إن الكثيرين منهم تنسب إنجازاتهم الكبيرة إلى غيرهم.. فقاسم أمين مثلاً رائد تحرير المرأة.. أكدت زعيمات الحركة النسائية أنه لم يكن سبّاقًا فى دعوته.. بل إن الفضل - كل الفضل - يُنسَب للفُضليات من المناضلات.. لكن المجتمع «الذكورى» المتسيّد سرق منهن الإنجاز الحضارى.. وأمّا شكسبير العظيم فلم يكن هو صاحب «هاملت» و«عُطيل» و«الملك لير» وغيرها من المسرحيات العظيمة.. بل استولى على تلك الإبداعات الخالدة أو كتبها له من الباطن- مجهول.. وهكذا.
لكن «كوكى» حينما أجبر على الاصطدام بمعلمته فى الحضانة صدامًا «أيديولوجيّا» محتدمًا حول شخصية «على بابا» فى بُعديها الاجتماعى والنفسى.. وفى منطقية أو عدم منطقية الأحداث الدرامية المتصلة بحكايته.. فقد قرر «كوكى» حينئذ أن يخوض معركته حتى نهايتها ويقود ثورته نحو «التغيير» ليس بمعناها الشكلى المحدود.. بل بكل أبعادها الجوهرية.
وأصل الحكاية أن المعلمة كانت تقص عليهم قصة «على بابا» الرجل الطيب المثابر الذى يعانى من شظف العيش ورقة الحال، لكنه ظل راضيًا بأحكام القدر وتصاريف الزمن دون شكوى أو تذمر حتى أمطرته السماء بهداياها الوفيرة عندما فتحت له أبواب المغارة الموصدة.. فاغترف من الذهب واللآلئ والجواهر ما يشاء.. وعاش بحصاده النفيس - هو وعشيقته المحظوظة «مرجانة» فى رغد العيش ورفاهية وسعادة وهناء.. دون أن يبذل فى الحصول على تلك الثروة عناء أو جهدًا أو مشقة فملك الملوك إذا وهب.. باض الحمام على الوتد.. فلا تسألن عن السبب أو كما نقول فى المأثور الشعبى «يرزق الهاجع والناجع والنايم على صرصور ودنه».. بل لم يسأل نفسه مجرد سؤال ما مصادر ذلك الكنز.. ولا من هو مالكه..
وحينما أنهت المعلمة حكايتها بالغرض الأخلاقى والمغزى التربوى الجليل الذى - تركز عليه تعليمات الوزارات المتعاقبة للتربية والتعليم فى بلادنا- الذى يتمثل فى الرضا بالمكتوب والرضوخ لفلسفة المآسى الإغريقية القديمة التى تتحكم فيها الآلهة فى مصائر البشر وأقدارهم.. بل تعاقب الأخ «قاسم» شقيق «على بابا» الذى يغار منه ويحسده ويحقد عليه لغناه المفاجئ.. فتوصد أبواب المغارة فى وجهه ولا فلح فى مسعاه لأنه لم يمتثل للحكمة السرمدية التى تقول إن «السهام المسمومة ترتد إلى صدور أصحابها من الطامعين الأشرار.. وأنه لو كانت الأمانى خيُّلاً لركب الشحاذون، فينبغى عليك ألا تحلم بأن تطال قامتك نجوم السماء، بل تقنع بزهد الصابرين وتقشف النُّسَّاك.
حينما أنهت المعلمة حكايتها بذلك الغرض الأخلاقى النبيل.. دعت الأطفال أن يرددوا خلفها هتافًا حماسيّا هو:
• على بابا رجل طيب
رفض «كوكى» أن ينساق معهم فى ترديد ما اعتبره جريمة نكراء وهتف بغضب وإصرار:
• على بابا رجل شرير.. لص أثيم سرق كنزًا لا يملكه وليس من حقه، وكان ينبغى عليه أن يُسلم المسروقات إلى قسم الشرطة.. أو يضبط متلبسًا بالسرقة ويعاقب على جريمته.. هكذا يجب أن تكون نهاية القصة.. طالما نحن كما يدّعون نعيش فى كنف دولة الأخلاق الحميدة والفضائل العميمة.. ويسيطر على مجتمعنا ثقافة الحلال والحرام.
أصاب المعلمة الهلع.. وصرخت مؤنبة ذلك الطفل المفعوص المارق الذى يعارضها ويجرؤ على مجرد النقاش، بل إنها طردته فى قسوة وطلبت منه ألا يعود إلا ومعه ولىّ أمره وأصرّت على تكرار النداء:
• قولوا ورايا يا أطفال.. على بابا رجل طيب.
حينما حاول الأب أن يقنع المعلمة بوجهة نظر «كوكى» مؤكدًا لها أنه طفل ذكى استنتج ما لم يستطع هو وجيله أن يستنتجوه.. وهذا يتسق مع الرؤية المستنيرة التى تستند إلى نسف ثقافة التلقين و...
قاطعته زاجرة مؤكدة أن «كوكى» طفل مشاغب يتمرد على وضعه الطبيعى كتلميذ ويريد أن يَقلب الهرم المستقر بتبادل الأدوار فيصبح هو المعلم وهى التلميذة.. هو ما يعكس خبث النية وينطوى على سوء التربية.
وبناء عليه فقد قرر «كوكى» بمعونة مجموعة من الأطفال الأصدقاء ذوى الاتجاهات الطليعية إنشاء جمعية أطلقوا عليها اسم «يا أطفال العالم اتحدوا» ترفع شعار «تجديد الخطاب التعليمى» يرأسها «كوكى» الذى بدأ الاجتماع الأول باستهلال قال فيه:
يا سنابل الغد الواعد.. وطليعة المستقبل المزهر.. ويا أحفاد التنويرين العظام وعلى رأسهم «طه حسين» الذى نادَى فى كتابه المهم «مستقبل الثقافة فى مصر» بإلغاء وسيلة «التلقين» إنى أطالب بثورة فى المناهج الدراسية تعتمد على التطوير والحداثة وتفجير طاقات الطالب ومواهبه وتنمية قدراته على الابتكار والاستنتاج والاستقراء والاستبطان وحرية التعبير لا الحفظ وترديد المعلومات ترديدًا ببغائيّا.. فليس من المعقول أن يظل جيل الكمبيوتر والإنترنت يدرس البساط السحرى وعُقلة الصباع ومصباح علاء الدين.. وإشكالية الأرنب «مونى» الذى تمرّد على نصيحة أمه باللعب مع أخويه «سونى» و«دود» فتاه بعيدًا عنهما حتى افترسه الذئب.. وفى قصة أخرى فإن الصبىّ أسامة يتحول إلى عُقلة الصباع ويقفز فوق ظهر سمكة كبيرة تغوص به فى أعماق البحار فيتسنّى له أن يشاهد الشُّعَب المرجانية الجميلة.. وليس من المعقول أن طالب المرحلة الإعدادية يدرس قصة «الصقر الجرىء» الذى يحلق فى السماء شاهدًا حزينًا لرؤية عرابى.. وهزائمه المتتالية من موقعة إلى أخرى وانسحابه المتكرر.. فيصاب بالاكتئاب ويسقط فى النهاية صريعًا على أرض الهزيمة..(!)
ويدرس طالب الثانوى «معلقة» لشاعر «داعشى» هو «عمرو بن كلثوم» الذى أبت أمُّه تعففًا وكبرياءً أن تعمل خادمة لدى ملك «الحيرة» وهتفت «وا ذُلّاه» فما كان من الشاعر «الرومانسى الرقيق» إلا أن استل سيفه وأطاح برأس الملك وهرب بحصانه وجلس فى ضوء القمر الساحر ليلاً يكتب معلقته الوحشية المخضبة بالدم .. ويطالب التلميذ باستخراج الصور الجمالية منها(؟!)
كما يدرس الطالب قصائد عصماء «لأبى تمام» و«البحترى» و«المتنبى» ينافقون فيها الحاكم نفاقًا رخيصًا إذا أجزل لهم العطاء.. ويتحولون فجأة من النقيض إلى النقيض فيذمونه ويكيلون له الهجاء الفاحش إذا لم يبسط يده على طريقة «ظرّفنى تعرفنى.. وأبّجنى تجدنى».
إن عالم العواجيز يكشف لنا دومًا عن وجهه الزائف.. يكذبون ويدّعون أن الكذب صدق.. ويتزلفون ويرون التزلف حكمة.. والتدليس شرفًا.. والخيانة وطنية.. والقبح جمالاً.. والتخلف فضيلة.. والعصرية انحلالاً .. والنظام بيروقراطية ذميمة.. لقد أصبحوا ضيوفًا على زماننا.. وحان الوقت لنقتلعهم من جذورهم.. ونمزق الأقنعة من على وجوههم ونحرق كتبهم الصفراء القديمة ومُسَلّماتهم العتيقة.. وثوابتهم المتحجرة.. وتراثهم المتخلف.. ومقدساتهم البالية ومعتقداتهم الزائفة.. وأحكامهم المتسلطة ووصايتهم المتعسفة.. حان الوقت لنُعيد «عصر نهضة العشرينيات» بروّاده التنويريين العظام بعد ردة طالت.. وظلامية تفشت وخرافة استفحلت وتكفيرية تمددت وتفاقمت.. ودجل عَمَّ وانتشر.. وثقافة اندثرت.. ولغة تهرأت.. وغيبيات سيطرت.. وفنون تقلصت وتداعت.. ويا أطفال العالم اتحدوا.