شباب التسعينيات بين «أبوعمر» و«أبوفريدة»
أعادَنِى مسلسل «أبو عمر المصري» المأخوذُ عن روايةِ الأديب والسياسى المصرى عز الدين شكري، إلى أجواء وعوالم التسعينيات من القرن الماضي، التى قضى فيها جيلِى زهرةَ الشباب، وأحلى سنوات العمر. كانت نقطةُ الانفجارِ فى الواقع (كما فى المسلسل أيضًا) هى زلزال 1992 الذى أخرج المكنونَ من طاقاتِ هذا الجيل، فخرج إلى الشوارع مندفعًا يبحث عن طريق، وكانت كل طرق «التنفيس» السياسيّ قد أغلقَتْ بـ«الضبة والمفتاح» بعد سنوات قصيرة من الحِرَاك الإيجابيِّ نحوَ ديمقراطيةٍ حقيقية.
أعقَبَتْ اغتيالَ الرئيس السادات فى مطلع الثمانينيات، قبل أن تُجهض الأحلام تدريجيًّا تحت سطوة الحزب الواحد الذى تحوَّل إلى صنمٍ لـ«الاستقرار» الموعود به الشعب كى يعبرَ كل أزماته، وطريقٍ وحيدٍ نحو «التنمية» المزعومة التى انتظرناها 30 عامًا، هى عمر حكم مبارك، ولم نُدرِكْها.
خرج الشباب وقتَها، فلم يجدوا إلا بوادرَ طريقَيْنِ جديدين يشقَّان فى خبث بعيدًا عن الأضواء، طريق الجهاد الدينى (الذى أوصلنا إلى التطرُّفِ وتجلَّى فى أبشعِ صُوَرِهِ فى تجربة «داعش»)، وقد سَلَكَه النجم الشاب والمتألق أحمد عز الذى جسد شخصية (فخر) فى حدوتة «أبو عمر» التى كتب لها السيناريو مريم نعوم، وأخرجها أحمد خالد موسى وأنتجها طارق الجناينى وعُرِضَت تليفزيونيًّا فى رمضان 2018، وطريق آخر بدأ يجهز فى هدوء لإبراز طريق وحيد للمستقبل يجسده (جمال مبارك) نجل الرئيس الأسبق (الذى رُزِق بابنة وحيدة فى 23 مارس 2010 سمَّاها فريدة)، والذى كان قد عاد إلى مصر مطلع التسعينيات باحثًا عن دورٍ خلفَ أبيه، ثم إلى جِوارِه قبل أن يُصبِحَ فى المقدمة ويحكمَ مصر فعليًّا مع نهاية عام 2010، ووَصَلَ معه البلد إلى حافَّةِ الهاوية، قبل أن يستردَّها الجيش ويعيدها إلى شعبها الذى قام بثورتين فى يناير 2011 ويونيو 2013، وأطاح برئيسَيْنِ لتخليص مصر من أتباع الطريقَيْنِ وتحجيم وجودهما على رأس السلطة، فقد استقطب كلّ من التيارين (أبو عمر) و (أبو فريدة) شباب مصر خلال عقدين كاملين قبل أن ينكشفا وتسقط الأقنعة عنهما، وكان كلاهما مشروعًا سياسيًّا فاسدًا تجرَّعَتْه مصر ودفعت فواتير خسائرهما الفادحة.
وكان المشروع الأول قد تبلوَر تحتَ عباءةِ «الإسلام السياسي» بكل أجنحَتِهِ وتنظيماتِهِ وفى مقدِّمَتِها جماعةُ (الإخوان المسلمين) المحظورة، وكان هذا المشروع هو العَصَبَ الرئيسيَّ والمحرِّك الخفى لما أطلق عليه «الربيع العربي» الذى موَّلَتْه ودعمته أجهزة مخابرات غربية لـ«تفكيك الشرق الأوسط» (أنصح المهتمين بالأمر الاطلاع على حلقات بالعنوان نفسه كشَفَها ونشر وثائقها السرية الزميلُ هانى عبد الله المحقِّق الصحفى البارع ورئيس تحرير مجلة «روزاليوسف»).
أما المشروع الثانى فقد كان دولة «رجال الأعمال» التى حكمت مصر فعليًّا فى السنوات العشر الأخيرة من عهد حسنى مبارك (2000 - 2010)، وتحولت مصر فى هذه الفترة إلى «شركة استثمارية»، كل مكوناتها خاضعة لشروط السوق وطموحات رؤوس الأموال، وبفضل هذه السنوات العشر اختفت من مصر «الطبقة المتوسطة» حصن المجتمع وثروته الحقيقية، وازداد فقر الفقراء وتوحُّش الأغنياء، وسقَطَتْ منظومة القيم المجتمعية، واختَفَتْ الأخلاق فى ظلِّ غياب تامٍّ لدور الدولة فى دعم مقاومة المجتمع لطوفان «الفوضى» التى خَلَّفَها عصرُ العَوْلَمة، وعدمُ وعيٍ وإدراكُ القائمينَ على الحكمِ وقتَها لخطورةِ تركِ المجتمع بلا مظلَّاتِ حمايةٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ ودينيةٍ، فحَدَث التشوُّهُ الحاصل والشاهد أمام أعيُنِنا للشخصيةِ المصرية، فوصَلَتْ إلى أحطِّ درجاتِها خلالَ السنواتِ السبعِ الماضية.
وبينَ الأبوَيْنِ (أبو عمر) و(أبو فريدة)، تنامَتْ السلطةُ الأبويةُ وطغَتْ بكلِّ ملامح فشلها الذريع، وبقى الشعب المصرى من بعدهما يتطلع إلى حالة «فطام» سياسى مؤجَّلَة بفعل سقوط المشروعين وتوابعِ هذا السقوط من إرهاب وفساد.
وأملنا فى السنوات المقبلة أن تُشيَّدَ مصر الجديدة، مُصححةً لأخطاء الماضي، وتعبِّد طرقًا واضحة للشباب توظِّف طاقتهم وتستثمر حماسهم فيما يخدم أهداف وطموح الدولة الوطنية المصرية، وتفتح لهم نوافذ الحرية والمشاركة السياسية السليمة بعيدًا عن طرق الماضى الملتوية، وصراعاته، لنحيا جميعا فى خير تحت شعار #تحيا_مصر.>
وكل عام وأنتم بخير.. عيدكم سعيد