
عاطف بشاى
الكوميديا المفترى عليها
يأتى رمضان هذا العام كالمعتاد وسط زفة إعلامية كبيرة يتصدرها الصحفيون والنقاد بإلقاء الضوء فى عجالة على المسلسلات الدرامية وإبراز الظواهر المرتبطة بها التى تتمثل فى غلبة أسلوب «ورش» الكتابة التى يتزعمها «أسطى» يقود مجموعة من الصبيان الهواة.. وقد اجتذبت تلك الطريقة النجوم وعلى رأسهم «عادل إمام» فى مسلسل «عوالم خفية» الذى تخلى فيه لأول مرة عن مؤلفه الأثير «يوسف معاطى» الذى كتب عددًا من مسلسلاته وأفلامه الأخيرة.. واستعان بورشة تضم ثلاثة كُتّاب..
وبنظرة سريعة عابرة.. وبمتابعة تتابع مشاهد الحلقات الأولى يتضح الفارق الشاسع فى المستوى الفكرى والفنى بين مسلسلات الورش.. وبين المسلسلات التى تعتمد على مؤلف واحد حتى ولو كان هذا المؤلف يكتب للمرة الأولى مثل «محمد رجاء» فى مسلسل «بالحجم العائلى» بطولة «يحيى الفخرانى» و «ميرفت أمين» وإخراج «هالة خليل».. فبينما تتسق المقدمة المنطقية التى تحتوى عليها الحلقة الأولى من المسلسل مع الفكرة الأساسية التى تقوم على المفارقة بين موقف زوج دبلوماسى قرر فجأة - وفى سِنّ متقدمة - أن يتمرد على قيود عمله المكبلة لحريته فى أن يعيش الحياة التى يرغبها ويهفو إليها باحثًا عن ذاته الحقيقية.. وبين زوجة أرستقراطية تتأفف من عدم التكافؤ بينها وبين زوج يريد أن يتفرغ لما تراه يسىء إلى مكانتها الأرستقراطية فى مجتمع مخملى.. ويأتى الرسم الجيد لأبعاد الشخصيات الاجتماعية والنفسية ليدعم صراعًا دراميّا تظهر من الوهلة الأولى بوادر احتدامه وتصاعده.. فى إيقاع متماسك وحوار مكثف دال.. بالإضافة إلى تفوق واضح فى الأداء وفى قدر المخرجة على السيطرة على أدواتها المختلفة تتمثل فى حركة الكاميرا الرشيقة والإضاءة الموحية.. واختيار أماكن وزوايا التصوير المناسبة.
بينما أيضًا يبدو - من الوهلة الأولى - أن مسلسل «عوالم خفية» «لعادل إمام» يجنح إلى أسلوب سردى تقريرى تتسم «مقدمته المنطقية» بخطابية زاعقة تكشف عن صحفية شابة تقتحم حياة صحفى كبير معارض فيُبهر بها بمجرد أن تذكر له متابعتها لحملاته الصحفية الكبيرة ضد الفساد.. وشجاعته فى مواجهتها والدخول إلى عش الدبابير.. فى حوارات مباشرة ساذجة ومشاهد سطحية خالية من الأحداث تفتقر إلى أى بادرة لها علاقة بالبناء الدرامى للعمل الكوميدى.. وإلى روح الإبداع الحقيقى..
المفروض أن مسلسلىّ «بالحجم العائلى» و«عوالم خفية» ينتميان إلى الكوميديا، لذلك فمن المهم أن نقرر أن الأول يحمل بذور كوميديا راقية لأن مؤلفه يدرك أن الضحك ينفجر من عنصرىّ «المفارقة» و «سوء التفاهم».. وهو ضحك ينتمى إلى «التراجيكوميدى» الذى ينبع من مأساة عجوز يعانى من جحود زوجته وأولاده.. وهو ما حرص عليه المؤلف منذ المشهد الأول..
بينما المسلسل الثانى فإن بوادره لا تشى بموهبة مؤلفيه فيما يتصل بفنون الأضاحيك..
يقودنا ما سبق إلى ما استلفتنى من رأى لناقدة مخضرمة - فى تحقيق صحفى معها - أوردت فيه ملاحظتها أن مسلسلات رمضان هذا العام كثر فيها الاعتماد على القالب الكوميدى فقالت بثقة تحسد عليها إن ذلك يعنى حالة من الإفلاس الفكرى رُغم أن المجتمع المصرى يزخر بالكثير من القضايا والمشكلات.
الناقدة المخضرمة لا تدرك الفارق الكبير بين وظيفة الكوميديا وبين «الهلس».. وأن ذلك الفن العظيم المسمى «الملهاة» منذ «أرسطو» يقوم على استخدام العقل فى طرح قضايا اجتماعية وسياسية وإنسانية وكشف سلبيات المجتمع وفضح عوراته.. وتعرية مثالب البشر وإحداث صدمة فى وعى المتفرج تدعوه إلى إصلاح عيوب مجتمعه وأحيانًا الثورة عليه لتغييره.. أمّا الزغزغة التافهة والإسفاف والحوار الهزلى القبيح القائم على التريقة والتلسين ومخاصمة الدراما القائمة على بناء الأحداث.. وإنشاء الصراع ورسم الشخصيات بأبعادها الاجتماعية والنفسية فإن الكوميديا تبكى وتنتحب من جراء الجرائم التى ترتكب باسمها..
وذلك بالطبع يدعونا إلى ضرورة الإشارة إلى تفاقم أزمة النقد الفنى وخطورة المعايير التى يستند إليها هؤلاء ممن يسمون أنفسهم نقادًا فى تصنيفهم وتقييمهم للأعمال الفنية..
بل وإن تلك الأزمة تتسع لتشمل مفاهيم تلك اللجنة الجديدة «لجنة الدراما» التى قدمت مجموعة من التوصيات التى تحدد معايير الدراما التليفزيونية إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام وإصدار القرارات اللازمة التى تكون بمثابة الوصاية والتوجيه للمبدع.. وأعضاء تلك اللجنة يتصدرها مبدع.. وبها نقاد للأسف - ليس فقط - لا يفرقون بين الكوميديا والتراجيديا.. وبين الاسكتشات الهزلية.. ولكنهم أيضًا لا يفرقون بين حرية الإبداع والتعبير وبين روح الفن الحقيقى.. وبدلًا من أن يدركوا أن العمل الفنى الذى يحتشد بالبذاءة والألفاظ النابية هو بالضرورة عمل ردىء لا يستحق العرض على النظارة برمته.. يتصورون أن حذف الألفاظ البذيئة يعطيه صكوك البراءة.. وبدلًا من علاج الجوهر وهو المتصل بتفشى ظاهرة كُتاب الدراما غير الموهوبين والذين لا يتمتعون بثقافة كافية أو دراسة أكاديمية متخصصة.. والذين يجب منعهم أصلًا من مزاولة المهنة.. يرحبون بوجودهم متصورين أن إزالة بعض البقع من الثوب وفرض الغرامة المالية على تجاوزاته اللفظية يطهره من الأدران ويجعل منه ثوبًا ناصعًا.. ولكن الحقيقة أن القبح بذلك ينتشر ويستشرى ويتوغل..>